1160 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
كتبه: وليد فكرى
كثيرة هي الكتابات التي تتناول مصر من حيث المكان والإنسان والتاريخ، باحتفاء بالعبقرية والتميز والتفرد، وأقل منها تلك التي تتناول نفس الموضوعات بشكل علمي رصين يخلو من حالة "الهتاف" الحماسي والخطاب التفخيمي.
من تلك الكتابات القليلة العمل العلمي القيّم "شخصية مصر" للدكتور جمال حمدان، والذي لا يتحدث فيه عن مصر من حيث كونها "البلد الأكثر تميزًا وعظمة وثراء وعبقرية في العالم" كما يبتذل الكثيرون الحديث عن مصر في كتاباتهم، بل أنه يحلل بشكل علمي رصين دقيق "الشخصية المصرية"، من حيث المكان والإنسان والموقع والجغرافيا الداخلية والجيولوجيا والتطور وغيرها من مكونات تلك الشخصية، دون أن يقع في الفخ الذي وقع فيه الكُتاب سالفو الذكر، وهو الأمر الذي يضيف الكثير لقيمة هذا العمل رغم مرور عشرات السنين على وضعه.
ولنبدأ بالمكان شكلًا وموقعًا، فكثيرًا ما كنتُ أتسائل وأنا أنظر لخريطة مصر: ماذا لو كنت أعيش في فرنسا أو شيلي أو أستراليا وطُلِبَ مني أن أرسم الخريطة؟
لابد أنه كان ليكون مطلبا صعبا بعكس رسم خريطة مصر ذات الشكل المربّع شبه المثالي.
هذا ما يلفت د.جمال حمدان النظر له في فصل شيّق من الجزء الأول من الكتاب، حيث يلفت النظر للشكل المربع للقُطر المصري، واصفًا جغرافية مصر بالبساطة، إلا أنه يسارع فينفي عنها ما يقال من أنها "جغرافيا صُنِعَت للأطفال"، فيؤكد أن وجه مصر الجغرافي إن لم يكن أقرب للبساطة منه للتركيب، فإنه أقرب للتركيب منه للتعقيد.
من مظاهر تلك البساطة -بخلاف الحدود شبه المربعة- أن وادي النيل يقسم مصر إلى هضبتين شرقية وغربية، والوادي نفسه منقسم إلى دلتا شمالًا وصعيد جنوبًا، والجانبان الشمالي والشرقي من مصر يحدهما بحران كبيران بطول الجانبين، يرسمان بدقة ضلعين مائيين من مربع الحدود المصري، بينما يرسم الجانبان الجنوبي والغربي الضلعين البريين. ويلفت الكاتب نظرنا إلى أنه يجب على دارس الجغرافيا المصرية أن يراعي في دراسته الخطوط الطبيعية الثلاث، المكونة لحدود وجسد مصر: الصحراء، النهر، والبحر.
في ضوء هذا الكلام، فإن القارئ للتاريخ المصري الطويل يلاحظ أن المصريين قد أجادوا استغلال هذه المميزات، لإقامة دولتهم وحمايتها من الغزاة من جهة، واستغلال هذه المعطيات الجغرافية كوسائط للتواصل مع العالم من جهة أخرى.
فمن ناحية وقوع الوادي بين مساحتين من الصحراء، كانت هذه ميزة استغلت كمانع طبيعي من الصحراء، التي تظهر كتابات د.جمال حمدان شدة قسوتها، لحماية المدن المصرية من الغزاة، فكان على الغازي، في زمن تقطع فيه المسافات بشق الأنفس، أن يعبر صحراء حارة قاحلة، مفتقرة للمياه، تمتلئ بمساحات الرمال الناعمة والحصى الصلب والصخور الحادة، ليبلغ مناطق المدن ويهاجمها.
والقارئ لكتاب الجبتانا، -قصة الخلق والتكوين الفرعونية-، يلاحظ أن المصري القديم قد نظر للوادي الخصب باعتباره المستقر الآمن للمصريين، بينما نظر للصحراء باعتبارها موطن الأشقياء، المحكوم عليهم بالحياة منفيين مرتحلين إلى الأبد. الأمر الذي يعكس أثر طبيعة وجه مصر على الوجدان الجمعي للمصريين.
ولو أراد هذا الغازي أن يتحرك بحرا، فإن بين البحر الأحمر والوادي هذه الصحراء سالفة الذكر. ولو جاء من الشمال عبر المتوسط، فإن هذا البحر -الذي يفسر د.حمدان اسمه بتوسطه قارات العالم القديم-، يقف حائلا مائيا بين "الآخر" ومصر، وهو مساحة مكشوفة، يمكن للمراقب أن يرى عبرها سفن الغزاة ويستعد لها.
وأما عن التواصل السلمي مع الدول الأخرى، فإن البحر الأحمر كان يلعب دور الوسيط بين مصر والجزيرة العربية شرقا، وبينها وسواحل أفريقيا جنوبا، والمتوسط كان يمارس نفس الدور، بالنسبة لسواحل الشام وآسيا الصغرى وأوروبا وشمال غرب أفريقيا.
ولا يعني ما سبق أن الصحراء كانت مساحة خاوية لا قيمة لها عند المصريين إلا كمانع طبيعي، فصحراء الشرق، تحديدا سيناء إلى الشمال، كانت بمثابة معبر بري لكلّ من جزيرة العرب والشام عبر الطريق المسمى طريق حورس، والذي كانت تمر عبره جيوش الفراعنة وصولا لبلاد الحيثيين في العراق، وهو الطريق الذي ورثت الدول والأنظمة اللاحقة للفراعنة استخدامه للتجارة والحرب، خاصة الحروب الشهيرة سواء بين البطالمة والسلوقيين، أو الفاطميين والعباسيين، أو الإمدادات المتوجهة لحرب الفرنجة، أو الجيش الخارج لمواجهة المغول في فلسطين، أو حملات محمد علي باشا إلى الشام وتركيا، وغيرها..
كذلك كانت الصحراء الغربية بمثابة بوابة لمد النفوذ المصري غربا، وصولا لعمق الشمال الأفريقي، عبر مختلف العصور. حتى أن الحدود المصرية القديمة كانت تصل إلى "برقة" الليبية حاليا.
بل وحتى نقمة الصحراء كأرض قاحلة الداخل إليها مفقود، أجاد المصريون استغلالها لصالحهم، خلال فترات الاضطهاد الروماني للمسيحيين الأقباط الأوائل، بقيام هؤلاء بالهرب إلى الصحراء والتحصن في موانعها الطبيعية، ضد بطش الجيوش الرومانية الثقيلة التي لا تتحمل الصحراء.
هذا عن الصحراء والبحر، فماذا عن النهر؟
إضافة لدور نهر النيل في توفير الماء والطمي، ودوره السياسي شديد القدم في توحيد الأراضي المصرية تحت نظام حاكم واحد، فإنه قد لعب دورا كبيرا في حركة النقل التجاري والحربي.
فمن الناحية التجارية، كان النيل بمثابة طريق دائم بين المدن المصرية الواقعة على ضفافه، للتبادل التجاري ونقل السلع للأسواق المحلية. أما على المستوى العالمي، فكان بمثابة المعبر للمدن غير المطلة على المتوسط، لنقل منتجاتها إلى مرافئ الشمال، تمهيدًا لتصديرها للخارج عبر البحر..
ومن الناحية العسكرية، فقد كان النهر معبرا للسفن الحربية المشحونة بالعتاد والجنود، سواء داخليا للقضاء على تمرد أو تسلل عسكري خارجي، أو خارجيا وصولا للمتوسط، لدعم الجيوش البرية من خلال فتح جبهة بحرية على العدو، أو القيام بغزوة بحرية خالصة، وهذا الدور بالذات قد تطور عبر العصور الوسطى، منذ قيام أحمد بن طولون بتأسيس أسطول حربي مصري قوي، وصولا لعصر المماليك الذين انتقلوا من مرحلة الدفاع ضد هجمات الفرنجة البحرية، لمرحلة مهاجمة القواعد الإفرنجية في قبرص ورودس.
كان وجه مصر إذن بمثابة المنحة الطبيعية الغالية التي كانت العنصر الهام في معادلة، أضيف إليها العنصر البشري، ليكون ناتجها قيام وجود حضاري قوي محصن ضد العدوان، وفي الوقت نفسه منفتح على الآخر..
هذا ما نستنتجه في ضوء التناول العلمي الدقيق من د.جمال حمدان لـ"وجه مصر"، وما تؤكده الكتابات التاريخية المتنوعة، التي تناولت أهم الأحداث المرتبطة بهذا الموضوع من كتابه
الزراير - شارع النيل - امام برج الساعة
السويس، مصر
الجوال: 01007147647
البريد الألكتروني: admin@suezbalady.com