951 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
تآكل مابقي من رصيد فني للممثل ( أحمد بدير ) , و اجتاز _ على ما يبدو بوضوح _ الأزمة التقليدية لكثيرين في الوسط الفني , أعني أزمة انحسار الأضواء , فلم تعد ( إفيهاته ) السمجة تضحك أحدا , و لم تعد كوميديا اللفظ النابي و الإيماء البذيء قادرة أن تنتزع تصفيقا أو ضحكا , و لم تعد الإكروبات الضحلة السخيفة التي يباشرها مستغلا طول قامته , و التي تطوح بالأصول الجمالية لفن المسرح العريق قادرة أن تسترد مجد ( عبد العال ) القديم , الذي دوى في الثمانينيات فملأ الدنيا و شغل الناس , و لم يعد الجمهور قادرا _ بوضوح كاف _ على التفريق بين ( أحمد بدير ) ممثلا أو ( أحمد بدير ) مثقفا صاحب رأي , حين يستضاف في بعض الحصص الإعلامية أو سوق ال ( توك شو ) فيوسع ثورة 25 يناير شتما و تطاولا عدوانيا لا يمكن تصديقه أو تفهمه , لفرط عدوانيته و منحاه الفاشي المتبلد في رؤية أعز اللحظات الثورية المصرية و أطهرها في التاريخ الحديث , و لم يستطع كثيرون أن يصدقوا دموعه ( المفتعلة ) المصنعة في البلاتوهات و هو يبكي ( مبارك ) , رجلا و عهدا و منهجا ! فقد بدا الافتعال بوضوح شديد , و ظهر التكلف و تصنيع الدموع الديكورية على أوضح ما يكون ! اختار ( أحمد بدير ) أن تكون السخرية المرة البذيئة المتطاولة من ثورة 25 يناير , و الهزء اللاذع المبتذل بشهدائها و رموزها , وسيلته الجديدة و ابتكاره الطازج للفت الأنظار و استعادة الجماهيرية المتآكلة أو المنحسرة ! و قد تدرج الرجل مع الجمهور فبدأ بتوزيع آرائه العدوانية المغلفة بقالب الاستظراف في برامج التوك شو , ثم في رحلة ( ألمانيا ) ضمن الوفد الفني ( العجيب ) أو الغوغائي الذي صاحب الرئاسة للترويج للمرحلة الجديدة , و امتشق ( بدير ) _ آنذاك _ سيفا خشبيا مدعيا الوطنية و لم يغادر فرصة سنحت هنا أو هناك إلا و أوسع 25 يناير تطاولا موتورا متبلدا لا يبالي بمواقع الكلمات و لا بمشاعر أسر الشهداء و لا بتيار الشباب العريض الذي ارتبط وجدانيا بتجربة 25 يناير في أبعادها الوطنية و الحضارية و الإنسانية ! و حين تأكد بدير من أن ردود الأفعال لم تتجاوز البوستات الغاضبة على الفيسبوك أو بعض الحملات الإعلامية محدودة التأثير , قرر أن ينقل تطاولاته الموتورة إلى خشبة المسرح , بخفة عجيبة و نزق مندفع , مراهنا على حالة الخفوت الجماهيري الخادعة بإزاء التهجم على 25 ينايرو مسامحة المتطاولين عليها عموما , فكانت مشاركته البطولية في مسرحية ( الغيبوبة ) التي ألفها الأديب ( محمود الطوخي ) , و أخرجها الفنان ( شادي سرور ) و صمم ديكوراتها د ( محمد سعد ) , و ألف موسيقاها ( محمد حمدي رؤوف ) . و تصور بدير _ و معه طواقم العمل المسرحي إجمالا _ أن رضاء السلطة وحده و ممالأة توجهاتها _ بغض النظر عن اقتناعه أو اقتناعنا بسلامة هذه التوجهات _ كاف في تمرير التجربة و إثارة حالة السخونة المطلوبة لتسويق المسرحية , و لكن جماهير السويس المجبولة على النضال و المعجونة بذاكرة البطولات و التي قدمت الدفعة الأولى من عرائس الشهداء في 25 يناير , وضعت حدا لسخافات هذه الجريمة المسرحية المتكاملة و ابتذال منحاها و عدوانية رسالتها الفاشية المتشفية ! و لم تكن المسرحية إجمالا إلا إفرازا متقيحا حقودا موتورا لكل ضغائن ( الدولة المباركية العميقة ) و أحقادها السوداء ضد 25 يناير و ممثليها . خلت التجربة في تقديري من أية صلة ب( فن المسرح ) , و تفرغت تقريبا للانتقام العدواني و التشفي السادي بإزاء فشل 25 يناير المفترض , و لم تكن المشاهد المسرحية المفتعلة إلا لسانا طويلا يخرجه ( محمود الطوخي ) و ( أحمد بدير ) لمحبي الثورة و المرتبطين بها , فضلا عن سخرية ( إجرامية ) من شهدائها , بفجاجة غليظة لا تصنف إلا في باب ( الجرائم العنصرية ) التي يعاقب عليها القانون ! و لم يتوقف بدير أو الطوخي ليسألا نفسيهما : ما شعور آباء الشهداء الذين قضوا في التحرير أو محمد محمود أو العباسية , و أمهاتهم , و هم يرون هذه الفواصل الدموية الفاشية التي تسخر من الأحياء و تمتد في غيها لتسخر من الرفات واصفة الشهداء ب ( البلطجية ) و 25 يناير ب ( المؤامرة ) . خرجت ( الغيبوبة ) بوضوح شديد , منشورا سياسيا حاقدا للثورة المضادة , صنع في غرف لجنة السياسات القديمة بالحزب الوطني البائد / العائد , و شكله رجالات ( مبارك ) الباقون على عينهم , و صممته _ في تقديري _ أجنحة متنفذة فاعلة في السلطة الجديدة لتنهي ( الحالة الثورية ) التي تمثلها 25 يناير وجدانيا , و لكن جماهير السويس _ مرة أخرى _ قالت كلمتها و صبت دشا باردا على رأس ( النفثة الحاقدة ) الملتصقة زورا بالمسرح ! و تحكي المسرحية إجمالا قصة رجل ذهب إلى ميدان التحرير في 25 يناير للحصول على ( جواز سفر ) ليرحل بعيدا ( لاحظ أنه منذ البداية لم يذهب ليشارك في الفعل الثوري ! ) , و أصيب الرجل برصاصة في رأسه فسقط في غيبوبة لم يفق منها إلا في 30 يونيو , حيث عادت إليه ذاكرته و أنفاسه ! ! و هكذا أنهت 30 يونيو حالة الغيبوبة التي صنعتها 25 يناير ! و تصور بدير و الطوخي أن هذه الرسالة يمكن قبولها _ أخلاقيا _ من قبل جماهير السويس التي قدحت الشرارة الأولى ل 25 يناير , و ذهبت العجرفة بطاقم ( الغيبوبة ) إلى الاعتقاد بأن تمرير هذه الرسالة جائز في السويس معقل الموجة الثورية الأولى ! و لن أجد في تقييم العمل المسرحي خيرا مما قالته الناقدة المسرحية د ( وفاء كمالو ) : ( ..جريمة اغتيال فعلية لفن المسرح , و تشويه جمالياته و استلاب دوره و أهدافه ...) , و لكن يبقى الشق السياسي من القضية أعمق أثرا و أقوى دلالة . فهل يمكن مقارنة صنيع بدير و الطوخي بما صنعه تاريخيا مسرح ( يوسف خياط ) , في زمن الخديوي ( إسماعيل ) حين مثل ( الخياط ) مسرحية ( الظلوم ) أمام الخديوي ب ( دار الأوبرا ) مدافعا عن حريات الأمة و منتقدا عسف السلطة عام 1879 , على نحو اضطر الخديوي إلى طرد ( الخياط ) خارج البلاد , و منع العروض المسرحية العربية بدار الأوبرا تماما ؟ ! المسرح الجاد كان منذ زمن ( أوديب ) و أبطال ( الأولمب ) حتى الآن حاضنة أخلاقية للنضال و القضايا الوطنية الرفيعة و لم يكن يوما ميدانا للسخرية من الموتى و التهكم من إرادات الشعوب , و لذا أطلق عليه الراحل الكبير ( زكي طليمات ) : ( الفن المقدس ) . و هل يمكن مقارنة صنيع بدير و الطوخي ممثلي الدولة العميقة في المشهد الثقافي بصنيع ( عاطف الطيب ) ( 1947_ 1995) في فيلم ( البريء ) ( 1986 ) أو ( ناجي العلي ) ( 1992 ) ؟! بقيت كلمة أخيرة لبدير و الطوخي و الضالعين في كارثة (الغيبوبة ) التي رفضها جمهور السويس بقوة و مروءة , ستظل لحظة 25 يناير حلما ثوريا كبيرا في وجدان جيل رأى بعينيه وجوها وطنية نقية تصطف لأول مرة مطالبة بحقها في الحياة و الكرامة و الحرية و الرأس المرفوعة و فرصة العمل الشريفة و لقمة الخبز التي لم تغمس يوما في الهوان , و لن يصل إلى خشبة المسرح التاريخي إلا هذه الدلالات الوطنية الكبيرة التي رآها جيل 25 يناير , أما مقاطع الثرثرة الحاقدة الفارغة فلن تصبح يوما مسرحا , فضلا عن أن تعرف طريقها إلى خشبة التاريخ التي لا يرتقيها إلا الكبار ! !
الزراير - شارع النيل - امام برج الساعة
السويس، مصر
الجوال: 01007147647
البريد الألكتروني: admin@suezbalady.com