طباعة هذه الصفحة

في يوم الشهيد "الجنرال الذهبي" عبد المنعم رياض

 اصبح رمزا للعسكرية المصرية الوطنية اطلق اسمه على احد اهم الميادين في العاصمة المصرية 

لكن الكثيرين لا يعرفون من هو عبد المنعم رياض، والذين يعرفون بعض الشيء عنه لا يعرفون تماما القيمة الحقيقية لهذا القائد الاستثنائي الكبير. الذي ترك بصماته على المؤسسة العسكرية الوطنية في مصر، وعلى المناضلين العرب من المحيط الى الخليج.

فهو رجل يبدو كأنه قادم من الاساطير، فقد عرفته مصر والعالم العربي كأحد اقدر القادة العظام حين اوكلت له مهمة رئاسة اركان القوات المسلحة المصرية بعد الهزيمة التي اصابت الجيش المصري في 1967، حين استدعاه الرئيس جمال عبد الناصر ليشرف على اعادة بناء القوات المسلحة من جديد. واصبح الفريق عبد المنعم رياض رئيسا لاركان الجيش المصري. وفي نفس الوقت استدعى عبد الناصر الفريق اول محمد فوزي وهو من القادة العظام الذين عرفتهم العسكرية العربية في العصر الحديث، ليكون القائد العام للقوات المسلحة ووزيرا للحربية. واخذ الاثنان على عاتقهما مهمة اعادة بناء الجيش بأقصى سرعة ممكنة، من اجل استرجاع وتحرير الارض التي احتلتها اسرائيل، حيث كانت سيناء بالكامل تحت الاحتلال حتى الضفة الشرقية لقناة السويس.

وفي فترة زمنية قصيرة استطاع الفريق عبد المنعم رياض انتشال الجيش المصري من بحار النكسة ورسم له الطريق الى بر النصر. فقد اقام الاتحاد السوفييتي جسرا جويا بين موسكو والقاهرة لتزويد مصر بالسلاح اللازم لها تعويضا عن السلاح الذي فقدته في نكسة حزيران. وكان الفريق عبد المنعم رياض هو المشرف المباشر على صفقات السلاح السوفييتي. وهو الذي اخذ على عاتقه إعداد جيش وطني مهني، قادر على النهوض من جديد ليأخذ زمام المبادرة في الدفاع النشط، توطئة للانتقال الى حالة الهجوم والتحرير. فقد كان هذا القائد يدرك المعنى الحقيقي لكلمات القائد الاعلى للقوات المسلحة الرئيس جمال عبد الناصر: "ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة". وعلى هذا الاساس تصرف الفريق عبد المنعم رياض. فبعد شهر ونصف من توليه منصبه خاضت قواته معركة "رأس العش" الشهيرة. وبعد اربعة اشهر من النكسة تم اغراق المدمرة الاسرائيلية "ايلات".

وبعد عام ونصف اصبح في مقدور القوات المسلحة المصرية ان تخوض حرب الاستنزاف على طول جبهة قناة السويس، وهذا الرجل هو بطل تلك الحرب، وقد ارتاح له السوفييت كثيرا فاطلقوا عليه لقب "الجنرال الذهبي"، فقد كان بين جنوده دائما في المواقع والثكنات، وفي التدريب والاعداد، وفي قلب المعركة المحتدمة، بين القذائف والشظايا، ضاربا ومسطّرا اروع الامثلة في القيادة والفداء، ومفندا المزاعم الاسرائيلية التي كانت بمثابة الحرب النفسية. وهي ان الضابط العربي يقول لجنوده: تقدموا بينما يظل في المؤخرة، بينما الضابط الاسرائيلي يقول لجنوده: إلحقوني حيث يكون في المقدمة، فالفريق رياض دحض هذه المقولة، واثبت للعدو قبل الصديق انه الرجل الاول في الجيش، لا يكون الا في مقدمة رجاله، وعلى خط الجبهة المواجه لعدوه.

ويوم استشهاده، في التاسع من  مارس 1969، كان شاهدا على ما اقول فقد سقط في الموقع (نمرة 2) على حافة قناة السويس، حين كان في زيارة تفقدية لقواته المشتبكة مع الجيش الاسرائيلي المحصن في خط بارليف شرق القناة. فقبل ايام من استشهاده كان يفكر في نقل مقر القيادة الى الجبهة. ويوم 8 مارس  1969، بدأت الخطة الكبرى لهدم "عشش الدجاج"، او "خط بارليف"، والتي شارك فيها الفريق رياض بدور كبير. ولم تكن هذه هي الزيارة الاولى للموقع "نمرة 2"، فقد زاره قبل ذلك (11) مرة، وكان دخان معارك اليوم السابق 7 مارس لا يزال في الافق، حيث نجحت القوات المصرية من خلال تشكيل واحد، شمالي الاسماعيلية، في تدمير خمسة مرابض لصواريخ ارض ارض وبطاريتي مدفعية، ودبابتين، وعربتين نصف جنزير، وبولدوزر، ورافعة كانت تعمل في تجهيز دشمة من دشم خط بارليف. وفي الساعة الثانية عشرة الا ربع ظهرا، هبطت طائرة رئيس الاركان في ارض المعركة، ونزل الفريق وسلم على الضباط الذين كانوا في انتظاره. واعطى تعليماته بتجهيز الطائرة ليذهب بها الى السويس في الثالثة والنصف، ثم يعود بعدها الى القاهرة. وفي الساعة الثانية دخل الفريق غرفة عمليات رئيس التشكيل وقادة الاسلحة، وأمامهم خارطة عسكرية كبيرة. دخل الغرفة وصافح كل من فيها، واستعرض معهم خطة تدمير دشم خط بارليف على الضفة الاخرى، ابتسم وهو يصدّق على الخطة قائلا: ممتاز..! عرض عليه قائد التشكيل تناول الطعام لكنه اعتذر حتى عن شرب الشاي، بعد ان نظر في ساعة يده ويقول: "انا كل ما بقي لي على الجبهة ثلاث ساعات، ما فيش غيرهم". شيء غريب، اذ كيف عرف انه لم يتبق له في الدنيا سوى ثلاث ساعات...؟!

كانت الساعة وقتها الثانية عشرة والنصف تماما، عندما تنقل بين ثلاثة مواقع متقدمة قبل ان يتجه جنوبا الى موقع  المعدية نمرة 6 علي شاطئ قناة السويس بمدينة اﻹسماعيلية دخل القائد الى الموقع بسيارة الجيب ذات البابين في الثالثة وخمس دقائق وخلفه سيارة جيب اخرى للحراسة. ترجل من سيارته كالفارس. مر على طاقم المدفعية. سلم على الجنود. استعار خوذة حكمدار الطاقم ونظارة الميدان، وببضع قفزات كان على الشاطئ يراقب دشم عدوه. انتقل الى موقع آخر، وفجأة انهالت قذائف الاسرائيليين على الموقع. في الساعة الثالثة والثلث، اصدر الفريق اوامره الى قائد الموقع بان يدير المعركة، لجأ قائد المدفعية الى حفرة، بينما وقف نسر مصر شامخا كالطود، رابط الجأش، رغم دوي القنابل من حوله، بينه وبين اقرب ملجأ ثلاث خطوات. لم يختبئ، كان يراقب تعامل المدفعية مع عدوه ويلاحظها. وقف الفارس والجميع يحاولون الاحتماء من القذائف التي امطرهم بها الاحتلال الاسرائيلي. ضابط مرافق للفريق شعر بالخوف عليه. جذبه الى حفرة قريبة وتمددا معا داخل الحفرة. لحظة وسقطت قذيفة مدفع دبابة "باتون"، الامريكية الصنع عيار 105 ملم. ارتطمت باحدى الاشجار الباسقة، وانفجرت على ارتفاع خمسة امتار، واحدثت دويا هائلا، وانتقلت شظاياها القاتلة الى اسفل، الى الحفرة. واصيب الفريق والضابط المرافق الذي قال لقائده: "انا اصبت يا فندم". ورد عليه الفارس قائلا "وأنا كمان". وتوالت الانفجارات، تقترب وتبتعد. وتبعثر دمارها على المنطقة. كان عدد القنابل التي تساقطت 500- 600 قذيفة من مختلف العيارات. مضت خمس دقائق وفارس مصر ممدد بجوار الضابط الذي  عاد يسأله: "ازاي الحال دلوقتي يا افندم؟!". الا انه لم يتلق اي رد، فالقائد البطل صمت الى الابد.

بعد هدوء الوضع اخذ الجنود يبحثون عن قائدهم دون جدوى. وفي احدى الحفر كان ممددا رأسه في الاتجاه الغربي، وقدماه الى الشرق وثمة شظايا في اعلى الفخذ الايمن، وفي منتصف الجانب الخارجي للفخذ الايسر، وعند رسغ اليد اليسرى وعلى الصدر آثار دماء. في السادسة وخمسين دقيقة تم نقل الخبر للرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان يرأس اجتماعا لمجلس الوزراء، ففض الاجتماع وذهب لمتابعة الموقف، حيث وصل الجثمان الى المستشفى العسكري بالمعادي. وعند الساعة الثامنة مساء، قطع راديو القاهرة و"صوت العرب" برامجهما العادية، وراحا يذيعان الاغاني الوطنية والمارشات العسكرية. وبعد ذلك بقليل جاء بيان المتحدث باسم القوات المسلحة ليزف للشعب المصري والامة العربية نبأ استشهاد رئيس هيئة اركان القوات المسلحة المصرية الفريق عبد المنعم رياض. وفي اليوم التالي خرجت في القاهرة  جنازة عسكرية وشعبية للفريق الشهيد، شارك فيها مليون شخص يتقدمهم الرئيس جمال عبد الناصر .

ولأن الحديث عن هذا القائد يطول ويطول إلا اني اكتفي هذه المرة بهذا القدر، فالرجل كان من اعظم القادة العسكريين في العصر الحديث

تدوين المؤرخ : سامح طلعت

قيم الموضوع
(0 أصوات)
محسن الحديري

أحدث مقالات محسن الحديري