718 زائر، ولايوجد أعضاء داخل الموقع
كانت زينة احتفالات أعياد الميلاد لا تزال بادية على شوارع و مباني لندن عندما عم الفرح و السرور منزل لويس ايدي و زوجته بولادة طفلتهما دورثي (Dorothy Louise Eady ) في كانون الثاني / يناير 1904 , كانت طفلة جميلة و ذكية أحاطها أبواها بكل الحب و الحنان , كيف لا و هي طفلتهم الوحيدة التي أتت لتشيع جوا من البهجة و السعادة التي افتقدها الأبوان لفترة طويلة في بيتهما الصغير الواقع في ضواحي لندن , و مثل جميع الأهل فقد شيد الزوجين صروحا من خيال حول مستقبل ابنتهما التي أرادا لها أن تنشا كفتاة انكليزية مثقفة و متعلمة وان تكون ناجحة في حياتها , لكن يبدو ان القدر كانت له خطط أخرى حول مستقبل الفتاة تختلف كليا عن أحلام والديها الوردية , ففي سن الثالثة تعرضت دورثي لحادثة مؤلمة سيكون لها تأثيرا كبيرا على حياتها , اذ بينما كانت الفتاة تلعب في منزلها تعثرت فجأة و سقطت من فوق السلم فارتطم رأسها بالأرض بشدة و تمددت على الأرض بدون حراك حتى ان الطبيب الذي احضره والدها على وجه السرعة ظن أنها ميتة , لكن الفتاة فاجأت الجميع و فتحت عينها بعد ساعة من الزمن و سرعان ما استردت عافيتها خلال الأيام التالية حتى ظن أهلها بأن الحادثة لن يكون لها أي تأثير على سلامتها , لكنهم كانوا مخطئين , فقد أخذت الفتاة تشاهد أحلاما غريبة عن مدن و مباني لم ترى لها مثيلا من قبل و أناس يتكلمون لغة لا تفقه منها شيئا , وأخذت هذه الأحلام تداهمها حتى في اليقظة على شكل تخيلات لأماكن و وجوه بدت مألوفة لدورثي الصغيرة لكنها لم تكن تعلم أين و متى شاهدتها في السابق.
بينما كانت دورثي في الخامسة من عمرها اصطحبها والداها إلى المتحف البريطاني و حين وصلت العائلة خلال جولتها داخل المتحف إلى قسم المصريات وقفت دورثي فجأة مشدوهة تحدق إلى الجداريات و التماثيل و النصب الفرعونية القديمة إذ أنها شبيهة بتلك الأشياء التي كانت تراها في أحلامها , لقد أحست دورثي أنها في بيتها و وسط دهشة الجميع انطلقت تجري كالمجنونة تقبل النصب و التماثيل و تركع للكتابات الهيروغليفية التي تطرز القطع الفرعونية المختلفة ثم جلست أخيرا القرفصاء أمام مومياء احد الملوك الفراعنة و رفضت أن تتزحزح من مكانها رغم محاولات أهلها الذين أصابهم الهلع و ظنوا إن ابنتهم أصيبت بالجنون
في سن الثامنة شاهدت دورثي في إحدى الجرائد صورة لخرائب معبد ستي الأول في أبيدوس (تسمى أيضا العرابة المدفونة و تقع غرب البلينا سوهاج في مصر) و في الحال تعرفت على المكان إذ كان هو نفس المبنى الذي طالما شاهدته في أحلامها و لكنها تعجبت لأنه كان خربا و قد اختفى بهائه و جماله القديم و تلاشت الحدائق الغناء التي كانت تحيط به. ثم التفتت دورثي نحو والدها و أخبرته ببراءة الأطفال و هي تشير بيدها إلى صورة المعبد بأن هذا هو بيتها الحقيقي و أنها عاشت سابقا في هذا المعبد.
كان والدا دورثي يعتقدان انه بمرور الزمن ستنسى طفلتهم هذه الأمور الغريبة التي كانت تحدثهم عنها حول حياتها السابقة في المعبد الفرعوني , لكن لسوء حظهم فأن عشق دورثي لمصر الفرعونية و كل ما يتعلق بها كان يزداد يوما بعد آخر و قد تحول إلى هاجس يلازمها ودفعها بعد أن أكملت دراستها العليا إلى التعمق في دراسة علم المصريات , ومن حسن حظها فأن منزلها كان قريبا من المتحف البريطاني لذلك غدت إحدى زواره الدائمين و تعرفت هناك عن طريق الصدفة على السير ارنست واليس الذي كان مختصا في مجال الأشوريات و المصريات و الذي بدء بتعليم دورثي على اللغة الهيروغليفية و عرفها على قصص و أساطير المصريين القدماء.
رغم وجودها الدائم قرب آثار الفراعنة في المتحف البريطاني و إتقانها للغة الهيروغليفية إلا إن ذلك لم يعوضها عن تحقيق حلمها الأكبر وهو الذهاب إلى مصر أو "الذهاب إلى الوطن" كما كانت تقول لوالديها , و في عام 1933 لاحت لدورثي فرصة ذهبية لتحقيق حلمها إذ تعرفت على شاب مصري كان يدرس في بريطانيا اسمه "إمام" سرعان ما توطدت العلاقة بينهما و تكللت بالزواج ثم رافقت دورثي زوجها عند عودته إلى مصر. و رغم ان زواجها لم يدم طويلا إذ حصلت على الطلاق بعد مرور عامين فقط على قدومها إلى مصر لكن هذا الزواج كان هو السبب الرئيسي في تحقيق حلمها القديم في العيش في مصر بالقرب من المعابد و الإطلال التي زعمت أنها عاشت في كنفها في حياتها السابقة قبل آلاف السنين , كما أن هذا الزواج أثمر عن طفلها الوحيد الذي أصرت على تسميته بـ "ستي" تيمنا بأسم الفرعون ستي الأول الذي ادعت أنها كانت تعمل في حياتها السابقة ككاهنة في معبده المكرس للإله اوزيريس في أبيدوس , و بعد ولادة طفلها أطلقت دورثي على نفسها تسمية أم ستي (Omm Sety ) تماشيا مع عادة المصريين (و الشرقيين عموما) في مناداة المرأة المتزوجة بأسم ابنها البكر مثل أم محمد و أم علي .. الخ , أما عن سبب طلاقها السريع فتقول ام ستي : "كان زوجي عصريا جدا فيما كنت أنا قديمة جدا!".
في مصر حصلت أم ستي على فرصة عمل في منطقة الجيزة و اشتغلت لعدة سنوات كمساعدة لأشهر المنقبين عن الآثار الفرعونية و قد أطرى الكثير من هؤلاء على موهبة أم ستي في مجال عملها واشتهرت أيضا في كونها أول امرأة تعمل في مجال التنقيب. لكن رغم تواجدها و عملها في مصر إلا أنها لم تحصل على فرصة لزيارة خرائب معبد اوزيريس في أبيدوس إلا بعد سنوات طويلة في عام 1956 حيث حصلت على وظيفة هناك من الحكومة المصرية. و في أول زيارة لها للمعبد تراقصت أمامها الخيالات التي رافقتها منذ طفولتها و أصبحت هناك أكثر وضوحا من أي وقت مضى.
خلعت أم ستي نعليها عندما همت بدخول المعبد (من العادات الشرقية الموغلة في القدم هي خلع النعل أو الحذاء قبل الدخول إلى الأماكن المقدسة تعبيرا عن الاحترام) كما كان يفعل المصريين القدماء لدى دخولهم إلى المعابد. وفي الداخل تحولت أحلام أم ستي إلى حقيقة ماثلة أمام عينها فهي لم تشاهد إطلال المعبد و خرائبه كما كانت تراه عيون الآخرين ولكنها رأتها بأبهتها القديمة كما كانت قبل آلاف السنين وكما شاهدتها دوما في أحلامها حيث الأروقة و الدهاليز المعبقة برائحة البخور و الجدران المزدانة بالنقوش و الكتابات الهيروغليفية الزاهية و حيث الكهنة يتجولون بهدوء يرفلون بثيابهم البيضاء و الكاهنات ينشدن بصوتهن الحزين الرخيم أعذب الترانيم التي تتحدث عن معاناة الإلهة ايزيس خلال رحلة بحثها الطويلة والمضنية عن جثمان زوجها المغدور الاله أوزيريس الذي قتله أخوه الأصغر الإله الشرير ست كانت أم ستي تؤمن بأنها في حياتها السابقة كانت فتاة يتيمة و جميلة اسمها بنتريشيت , كانت إحدى كاهنات معبد اوزيريس في أبيدوس وكانت وظيفتها الأساسية هي مشاركة بقية الكاهنات في إحياء الطقوس و الشعائر المرتبطة بقصة موت الإله اوزيريس و بعثه من جديد , لكن نهاية حياة بنتريشيت كانت مأساوية حيث ان مؤسس المعبد و هو الفرعون الشاب ستي الأول شاهدها في احد الأيام في حديقة المعبد فأعجب بها ووقع في حبها و انتهت علاقة الغرام هذه بحملها منه و لهذا فضلت بنتريشيت ان تنتحر بالسم على أن تلطخ سمعة الفرعون الشاب بإقامته علاقة جنسية محرمة مع إحدى كاهنات المعبد.
أمضت أم ستي ما تبقى من حياتها في أبيدوس تعمل مع المنقبين و في سنواتها الأخيرة أصبحت تعمل كمرشدة للسياح الأجانب. وقد عرفها الكثير من الناس و احترموها بغض النظر عن تصديقهم لقصتها أو لا , و احد هؤلاء الذين عرفوها عن قرب هو زاهي حواس الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار المصرية الذي عمل في أبيدوس في شبابه وقد شدته بساطة هذه المرأة و علاقتها الروحية مع الآثار الفرعونية حيث كانت تدخل إلى المعبد حافية القدمين ثم تجلس على الأرض العارية و تدخل في حالة تأمل روحية فتبدو كأنها تجسيد حي و حقيقي لكاهنة فرعونية قديمة , كما أعجب حواس بقدرتها الفائقة في قراءة الكتابات الهيروغليفية القديمة و اطلاعها الواسع في مجال علم التنقيب و تاريخ مصر الفرعونية عموما. ويقول حواس عن ذكرياته عنها في إحدى المقالات التي نشرها في جريدة الأهرام الأسبوعي
"في احد الأيام زارتنا ام ستي و تناولت الطعام معنا وحدثتنا عن قصة حياتها. كانت قد ولدت في انكلترا و اسمها الحقيقي هو دورثي ولكنها بدئت منذ سن مبكرة بالحديث عن ابنها ستي. لقد اعتقدت بأنها كانت امرأة مصرية قديمة في حياتها السابقة. اعتقد والدها بأنها مجنونة و أرسلها إلى طبيب نفسي. غادرت انكلترا في شبابها و قدمت إلى مصر وعملت في الجيزة مع سليم حسن , عالم المصريات المشهور. لقد كانت مساعدة بارعة. أجادت تحبير الكتابات الهيروغليفية القديمة كما لو أنها حقا فنانة مصرية قديمة. أحبها و تزوجها رجل مصري اسمه إمام و كان له ولد منها أسمته ستي. وجراح القلب المصري المشهور عادل إمام هو ابن زوجها
في عام 1981 توفت أم ستي عن سبعة و سبعين عاما قضت معظمها في مصر ودفنت بالقرب من أبيدوس حيث تحقق حلمها القديم و تحولت أخيرا إلى اوزيريس. واليوم رغم مرور عدة عقود على وفاتها فأن قصتها مازالت مثارا للجدل , فالمشككين بقصتها يحتجون بأنه لا يوجد أي شيء حقيقي و مادي ملموس يثبت بأن دورثي لويس ايدي عاشت حقا حياة سابقة في مصر القديمة و أن تخيلاتها و أحلامها هي في حقيقتها مجرد هلوسات سببتها الضربة القوية التي تلقتها على رأسها في طفولتها. أما المؤيدين و المؤمنين بصدق قصة أم ستي فيقولون بأنه لم يكن هناك أي شيء يجبر سيدة انكليزية متعلمة على القدوم إلى مصر و العيش في منطقة معزولة نسبيا لما تبقى من حياتها لولا صدق ما أمنت به , إضافة إلى ذلك فأن جميع الذين عملوا معها من منقبين و آثاريين أشادوا ببراعتها الاستثنائية في مجال عملها خصوصا في كتابة و قراءة الهيروغليفية القديمة و تحبير النقوش و الرسوم الفرعونية. وربما يكون الدليل الأقوى على صحة قصتها هو بعض الأمور التي لم تكن معروفة و التي أرشدت أم ستي المنقبين للكشف عنها , فقد أصرت مثلا على وجود حديقة كانت ملاصقة للمعبد في العهود القديمة , و رغم أن اغلب المعابد المصرية كانت تحتوي على حدائق , إلا أن أم ستي أخبرت المنقبين عن منطقة محددة ليحفروا فيها و قد دهش هؤلاء عندما عثروا بالفعل على آثار الحديقة. كما تحدثت أم ستي عن وجود قناة أسفل الجزء الشمالي من المعبد و قد أثبتت التنقيبات صحة ذلك. لكن تبقى أهم معلومة قدمتها أم ستي للمنقبين بدون إثبات إذ إنها أصرت على وجود سرداب أسفل المعبد يحتوي على الكثير من الكتب التاريخية و الدينية القديمة لكن المنقبون لم يستطيعوا العثور عليه حتى اليوم.
الزراير - شارع النيل - امام برج الساعة
السويس، مصر
الجوال: 01007147647
البريد الألكتروني: admin@suezbalady.com