المسلمون يتقدمون، يسبقهم نصر مؤزر ..
والمشركون يتسلقطون في حضيض هزيمة منكرة ..
والبراء هناك مع اخوانه يسيرون لراية محمد صلى الله عليه وسلم الى موعدها العظيم ..
واندفع المشركون الى وراء هاربين، واحتموا بحديقة كبيرة دخلوها ولاذوا بها ..
وبردت المعركة في دماء المسلمين، وبدا أن في الامان تغير مصيرها بهذه الحيلة التي لجأ اليها أتباع مسيلمة وجيشه ..
وهنا علا البراء ربوة عالية وصاح :
" يا معشر المسلمين .. احملوني وألقوني عليهم في الحديقة " .. ألم أقل لكم انه لا يبحث عن النصر بل عن الشهادة .. !!
ولقد تصوّر في هذه الخطة خير ختام لحياته، وخير صورة لمماته .. !!
فهو حين يقذف به الى الحديقة، يفتح المسلمين بابها، وفي نفس الوقت كذلك تكون أبواب الجنة تأخذ زينتها وتتفتح لاستقبال عرس جديد ومجيد .. !!
ولم ينتظر البراء أن يحمله قومه ويقذفوا به، فاعتلى هو الجدار، وألقى بنفسه داخل الحديقة وفتح الباب، واقتحمته جيوش الاسلام ..
ولكن حلم البراء لم يتحقق، فلا سيوف المشركين اغتالته، ولا هو لقي المصرع الذي كان يمني به نفسه ..
وصدق أبو بكر رضي الله عنه :
" احرص على الموت .. توهب لك الحياة " .. !!
صحيح أن جسد البطل تلقى يومئذ من سيوف المشركين بضعا وثمانين ضربة، أثخنته ببضع وثمانين جراحة، حتى لقد ظل بعد المعركة شهرا كاملا، يشرف خالد بن الوليد نفسه على تمريضه ..
ولكن كل هذا الذي أصابه كان دون غايته وما يتمنى ..
بيد أن ذلك لا يحمل البراء على اليأس .. فغدا تجيء معركة، ومعركة، ومعركة ..
ولقد تنبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه مستجاب الدعوة ..
فليس عليه الا أن يدعو ربه دائما أن يرزقه الشهادة، ثم عليه ألا يعجل، فلكل أجل كتاب .. !!
ويبرأ البراء من جراحات يوم اليمامة ..
وينطلق مع جيوش الاسلام التي ذهبت تشيّع قوى الظلام الى مصارعها .. هناك حيث
تقوم امبراطوريتان خرعتان فانيتان، الروم والفرس، تحتلان بجيوشهما الباغية بلاد الله، وتستعبدان عباده ..
ويضرب البراء بسيفه، ومكان كل ضربة يقوم جدار شاهق في بناء العالم الجديد الذي ينمو تحت راية الاسلام نموّا سريعا كالنهار المشرق ..
وفي احدى حروب العراق لجأ الفرس في قتالهم الى كل وحشية دنيئة يستطيعونها ..
فاستعملوا كلاليب مثبتة في أطراف سلاسل محمأة بالنار، يلقونها من حصونهم، فتخطف من تناله من المسلمين الذين لا يستطيعون منها فكاكا ..
وكان البراء وأخوه العظيم أنس بن مالك قد وكل اليهما مع جماعة من المسلمين أمر واحد من تلك الحصون ..
ولكن أحد هذه الكلاليب سقط فجأة، فتعلق بأنس ولم يستطع أنس أن السلسلة ليخلص نفسه، اذ كانت تتوهج لهبا ونارا ..
وأبصر البراء المشهد لإاسرع نحو أخيه الذي كانت السلسلة المحمأة تصعد به على سطح جدار الحصن .. وقبض على السلسلة بيديه وراح يعالجها في بأس شديد حتى قصمها وقطعها .. ونجا أنس وألقى البراء ومن معه نظرة على كفيه فلم يجدوهما مكانهما .. !!
لقد ذهب كل ما فيهما من لحم، وبقي هيكلهما العظمي مسمّرا محترقا .. !!
وقضى البطل فترة أخرى في علاج بطيء حتى بريء ..
أما آن لعاشق الموت أن يبلغ غايته .. ؟؟
بلى آن .. !!
وهاهي ذي موقعة تستر تجيء ليلاقي المسلمون فيها جيوش فارس ولتكون لـ البراء عيدا أي عيد ..
احتشد أهل الأهواز، والفرس في جيش كثيف ليناجزوا المسلمين ..
وكتب امير المؤمنين عمر بن الخطاب الى سعد بن أبي وقاص بالكوفة ليرسل الى الأهواز جيشا ..
وكتب الى أبي موسى الأشعري بالبصرة ليرسل الى الأهواز جيشا، قائلا له في رسالته : " اجعل امير الجند سهيل بن عديّ .. وليكن معه البراء بن مالك " ..
والتقى القادمون من الكوفة بالقادمين من البصرة ليواجهوا جيش الأهواز وجيش الفرس في معركة ضارية ..
كان الاخوان العظيمان بين الحنود المؤمنين.. أنس بن مالك، والبراء بن مالك ..
وبدأت الحرب بالمبارزة، فصرع البراء وحده مائة مبارز من الفرس ..
ثم التحمت الجيوش، وراح القتلى يتساقطون من الفرقين كليهما في كثرة كاثرة ..
واقترب بعض الصحابة من البراء، والقتال دائر، ونادوه قائلين : " أتذكر يا براء قول الرسول عنك : ربّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبرّه، منهم البراء بن مالك .. ؟ يا براء أقسم على ربك، ليهزمهم وينصرنا " ..
ورفع البراء ذراعيه الى السماء ضارعا داعيا : " اللهم امنحنا أكنافهم .. اللهم اهزمهم .. وانصرنا عليهم .. وألحقني اليوم بنبيّك " ..
ألقى على جبين أخيه أنس الذي كان يقاتل قريبا منه .. نظرة طويلة، كأنه يودّعه ..
وانقذف المسلمون في استبسال لم تألفه الدنيا من سواهم ..
ونصروا نصرا مبينا ..
ووسط شهداء المعركة، كان هناك البراء تعلو وجهه ابتسامة هانئة كضوء الفجر .. وتقبض يمناه على حثيّة من تراب مضمّخة بدمه الطهور .. لقد بلغ المسافر داره ..
وأنهى مع اخوانه الشهداء رحلة عمر جليل وعظيم، ونودوا :
" أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" ....