بقلم الكاتب : محمد عبد اللطيف حمدان
يمكن القول ان تاريخ الشعوب في مختلف البلدان لم يشهد ظروفا مثل الظروف التي حوصرت فيها مدينه السويس ايام ان قاوم مئات المدنيين من ابنائها والمسئولين عنها حصارا استمر 101 يوم في ظل ظروف بالغه القسوه انعدم فيها القوت والمدد والماء ورغم الجوع والظما لم يستسلم احد ممن عايشوا تلك الفتره وظلوا صامدين في ظروف قاسيه .. وستظل شخصيه اللواء ( محمد بدوي الخولي ) محافظ السويس في تلك الفتره هي الشاغل نظرا لما يفرضه الواجب والعدل والانصاف وما تقتضيه الامانة التاريخية واظهار حقيقه تسليم المدينه او رفض تسليمها ومن اجل الكشف عما خفي من اسرار بهذا الخصوص قمت بهذه الدراسة الدقيقة وكنت معتمدا في بحثي على عدد من الوثائق والمستندات الرسمية وشهادات بعض المسئولين الذين عايشوا تلك الاحداث بحكم وظائفهم يوم ان كانو مطلعين على كل الخفايا التي سجلتها بكل امانه وبدقة .
تبدا الحكايه عندما اتصل المدير المنوب بشركة السويس لتصنيع البترول السيد ( سعد الهاكع ) في تمام التاسعة من صباح يوم 25 أكتوبر بالمقدم ( فتحي غنيم ) رئيس الدفاع المدني والحريق في تلك الفتره يبلغه أن الدبابات الاسرائيلية قد وصلت الى مقر الشركة في الزيتيات .
وبعد مرور حوالي 25 دقيقة علي المحادثه الاولي عاود ( الهاكع ) الاتصال بالمقدم ( فتحي غنيم ) يريد التحدث مع المحافظ أو مدير الأمن وبينما حديث ( الهاكع ) مع رئيس الدفاع المدني والحريق مستمرا اخذ ضابط اسرائيلي السماعة من يد( سعد الهاكع ) وسال المقدم ( فتحي غنيم ) بلهجة شامية : أين المحافظ ؟
أجاب المقدم ( فتحي غنيم ) الذى كان يجلس بالقرب من المحافظ : المحافظ غير موجود حاليا .
طلب الضابط الاسرائيلي من محدثه ضروره ابلاغ المحافظ تسليم المدينة في غضون نصف ساعة وعليه ( اى المحافظ ) ومدير امن والقائد العسكري الحضور الى استاد السويس الرياضي القديم في سيارة خاصه عليها علم ابيض علي ان يتبعهم بعد ذلك باقي المدنيين واذا لم يتم ذلك خلال نصف ساعة فسوف تقوم الطائرات والدبابات الاسرائيليه بدك المدينة علي ساكنيها وعندما أبطأ متلقي الرساله في الرد صاح الضابط الاسرائيلي بصوت عالي : رد يا زلمة ليش ما بترد ( كلمة زلمة بالشامية تعني يا رجل ) .
اغلق التليفون واتصل المحافظ الذى كان قد سمع المحادثه بالعميد (عادل اسلام ) القائد العسكري للمدينه طالبا منه سرعه الحضور الي غرفة العمليات بالمحافظة او يقابله علي عجل في الطابق الثاني بمسجد الشهداء
في بهو المسجد قال المحافظ للعميد ( عادل اسلام ) : اليهود طلبوا مني تسليم المدينة وأنذروني بضربها ان لم ارد عليهم خلال نصف ساعة وسال العميد ( اسلام ) ما رأيك بصفتك القائد العسكري المسئول .
العميد (عادل اسلام ) : اعطني فرصة حتي اتصل بالرائد ( محمد رفعت شتا ) قائد شرطة النجده اللاسلكية لابلاغه بالموقف في المدينه لنقله الي القائد الاعلي في القاهره (شرطة النجده هي الجهه الوحيده التي كانت علي اتصال مع القاهره )
بعد دقائق اتصل المحافظ مجددا بالرائد ( محمد رفعت شتا ) يبلغه رسالة عاجله الي القاهره كانت علي النحو التالي : ( اليهود أنذروني بتسليم المدينه في ظرف نصف ساعة والا ضربونا بالطيران وليس عندي مياه ولا ذخيرة والدقيق الموجود بالمخازن تم حرقه بنيران المدفعيه الاسرائيليه منذ دقائق ..... أوامركم ) ... هكذا سارت الامور حيث تم ابلاغ القاهره بالموقف .
غادر المحافظ مسجد الشهداء وبعد مرور عشر دقائق عاود الاتصال بالعميد ( عادل اسلام ) سائلا : ماهو رأئيك فيما يحدث .
رد العميد ( اسلام ) قائلا : أنا لم أقرر بعد .
المحافظ ( بدوى الخولي ) بحدة صارخا : قرارك مش قرار نهائي والقرار النهائي قراري وأنا المسئول عن هذا البلد ورأيك مجرد رأي استشاري .
العميد ( عادل اسلام ) : أنا حاخد رأي المستشارين الموجودين معي .
المحافظ مستفسرا : مين هم المستشارين دول .
العميد عادل اسلام : معي الحاج حافظ سلامة .
المحافظ غاضبا : ايه قيمة رأي الشيخ حافظ في هذا الموضوع أنا عاوز رايك كقائد عسكرى مسئول .
العميد ( عادل اسلام ) : رأيي هو اللي تشوفه سيادتك .
لم يكد المحافظ ينتهي من حواره عبر التليفون حتى دق جرس الهاتف مجددا وكان علي الجاتب الاخر الضابط الاسرائيلي الذى كان يستعجل رد المحافظ في تسليم المدينه
المحافظ للضابط الاسرائيلي بحده : انتم كنتم في السويس ( امبارح ) وشفتم ردنا النهائي عليكم ويمكن أن تجربوا الحضور الينا مرة أخرى ثم وضع سماعه التليفون بعنف .
المحافظ لمدير الامن اللواء ( محيي خفاجي ) في تلك الفتره : مفيش طريقة لقطع الخط التليفوني ده ؟
اللواء محيي خفاجي : ساطلب من رئيس السنترال قطع الخط مع شركة السويس لتصنيع البترول وبالفعل تم فصل الخط عن غرفه العمليات وانقطعت بذلك الاتصالات بالاسرائيليين .
في تلك الاثناء كان الرائد ( رفعت شتا ) قائد شرطة النجده قد تلقي رسالة من العميد محمد نبوي اسماعيل مدير مكتب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية السيد ( ممدوح سالم ) كان نص الرساله كما يلي : الي محافظ السويس - لا تسليم ويتم الدفاع عن المدينه وعليكم اى ( المحافظ ومدير الامن ) الانضمام الى صفوف المقاومة الشعبية
ونظرا لاهمية الرسالة قام العميد ( نبوي اسماعيل ) باعاده تلاوتها علي الرائد ( رفعت شتا ) للتاكد من انه قد استقبلها صحيحة .
أبلغ الرائد ( رفعت شتا ) رسالة القاهرة الى المحافظ بالتليفون في الساعة التاسعة والدقيقة 55 وكان رد المحافظ جازما حاسما : ( علم وسوف انضم فورا لصفوف المقاومة الشعبية ونموت شهداء ) .
وعندما علم اللواء محيي خفاجي مدير الامن بمضمون الرساله قال ايضا : ( قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا ) .
بعدها طلب المحافظ من المقدم ( فتحي غنيم ) رئيس الدفاع المدني والحريق ان يصطحب عضو الاتحاد الاشتراكي في تلك الفتره السيد ( صبحي السيد ) في احد السيارات التي تحمل مكبرا للصوت ويعلن للناس ان المحافظ يرفض الانذار الاسرائيلي .. وبالفعل اخذ المقدم ( فتحي غنيم ) يذيع بيان المحافظ على الناس في الشوارع .
ونظرا لان المحافظ اراد اذاعة بيانه على اوسع نطاق كان قد اتصل شخصيا بالشيخ حافظ سلامة وطلب منه تبليغ المصلين ورواد المسجد .
هكذا لم يكن الانذار الاسرائيلي للمحافظ صباح يوم 25 أكتوبر سوى خدعة خبيثة من ضابط اسرائيلي جبان اراد على ما يبدو استغلال الموقف السيئ الذي اصبحت عليه المدينة ليقوم بمحاولة لترويع المحافظ ومعاونيه عسى أن يخيفهم .. والحقيقه ان المحافظ لم يكن خائفا ولم يكن يفكر في تسليم شبر واحد من المدينه دون الرجوع الي القائد الاعلي والقياده السياسيه في القاهره .
تحيه لكل من برا ساحه اللواء ( محمد بدوى الخولي ) محافظ السويس في تلك الفتره الذي تحمل المسئوليه كامله في ظل ظروف بالغه القسوه حيث لم يستسلم للخوف رغم الواقع القاسي والجوع والظما والاتهامات طوال فتره حصار المدينه
تحيه لهذا المحافظ الشجاع االذى كان رئيسا لدوله طوال حصار السويس في الفتره من بدايه اكتوبر عام 1973 والتي استمرت حتي توقيع اتفاقية فض الاشتباك في 18 يناير 1974 .
تحيه لكل ابطال ( ملحمه حصار السويس ) رجال قواتنا المسلحه الابرار ورجال الشرطه البواسل الذين شاركوا في صناعه النصر .
..... والي ملحمه بطوليه اخرى قريبا لو كان في العمر بقيه