Login to your account

Username *
Password *
Remember Me
السويس بلدي

السويس بلدي

أقبل على مكة نشوان مغتبطا .. صحيح أن وعثاء السفر وفيح الصحراء قد وقذاه بالضنى والألم، بيد أن الغاية التي يسعى اليها، أنسته جراحه، وأفاضت على روحه الحبور والبشور .

ودخلها متنكرا، كأنه واحد من أولئك الذين يقصدونها ليطوّفوا بآلهة الكعبة العظام .. أو كأنه عابر سبيل ضل طريقه، أو طال به السفر والارتحال فأوى اليها يستريح ويتزوّد .

فلو علم أهل مكة أنه جاء يبحث عن محمد صلى الله عليه وسلم، ويستمع اليه لفتكوا به .

وهو لا يرى بأسا في أن يفتكوا به، ولكن بعد أن يقابل الرجل الي قطع الفيافي ليراه، وبعد أن يؤمن به، ان اقتنع بصدقه واطمأن لدعوته.. ولقد مضى يتسمّع الأنباء من بعيد، وكلما سمع قوما يتحدثون عن محمد اقترب منهم في حذر، حتى جمع من نثارات الحديث هنا وهناك ما دله على محمد، وعلى المكان الذي يستطيع أن يراه فيه .

في صبيحة يوم ذهب الى هناك، فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم جالاسا وحده، فاقترب منه وقال : نعمت صباحا يا أخا العرب.. فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام : وعليك السلام يا أخاه .

قال أبو ذر : أنشدني مما تقول.. فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام : ما هو بشعر فأنشدك، ولكنه قرآن كريم .

قال أبو ذر : اقرأ عليّ.. فقرأ عليه الرسول، وأبو ذر يصغي.. ولم يمضي من الوقت غير قليل حتى هتف أبو ذر : "أشهد أن لا اله الا الله ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله " وسأله النبي : ممن أنت يا أخا العرب .. ؟ فأجابه أبو ذر : من غفار..

وتألقت ابتسامة على فم السول صلى الله عليه وسلم، واكتسى وجهه الدهشة والعجب ..

وضحك أبو ذر كذلك، فهو يعرف سر العجب الذي كسا وجه الرسول عليه السلام حين علم أن هذا الذي يجهر بالاسلام أمامه انما هو رجل من غفار .. !! فغفار هذه قبيلة لا يدرك لها شأو في قطع الطريق .. !! وأهلها مضرب الأمثال في السطو غير المشروع .. انهم حلفاء الليل والظلام، والويل لمن يسلمه الليل الى واحد من قبيلة غفار .

أفيجيء منهم اليوم، والاسلام لا يزال دينا غصّا مستخفيا، واحد ليسلم .. ؟! يقول أبو ذر وهو يروي القصة بنفسه : ".. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يرفع بصره ويصوّبه تعجبا، لما كان من غفار، ثم قال : ان الله يهدي من يشاء .

ولقد كان أبو ذر رضي الله عنه أحد الذين شاء لهم الهدى، وأراد بهم الخير .

وانه لذو بصر بالحق، فقد روي عنه أنه أحد الذين شاء الله لهم الهدى، وأراد بهم الخير .

وانه لذو بصر بالحق، فقد روي عنه أنه أحد الذين كلنوا يتألهون في الجاهلية، أي يتمرّدون على عبادة الأصنام، ويذهبون الى الايمان باله خالق عظيم ، وهكذا ما كاد يسمع بظهور نبي يسفّه عبادة الأصناك وعبّادها، ويدعو الى عبادة الله الواحد القهار، حتى حث اليه الخطى، وشدّ الرحال .

أسلم أبو ذر من فوره .. وكان ترتيبه في المسلمين الخامس أو السادس..

اذن، هو قد أسلم في الأيام الأولى، بل الساعات الأولى للاسلام، وكان اسلامه مبكرا ..

وحين أسلم كلن الرسول يهمس بالدعوة همسا .. يهمس بها الى نفسه، والى الخمسة الذين آمنوا معه، ولم يكن أمام أبي ذر الا أن يحمل ايمانه بين جنبيه، ويتسلل به مغادرا مكة، وعائدا الى قومه ... ولكن أبا ذر، جندب بن جنادة، يحمل طبيعة فوارة جيّاشة .

لقد خلق ليتمرّد على الباطل أنى يكون .. وها هو ذا يرى الباطل بعينيه .. حجارة مرصوصة، ميلاد عابديها أقدم من ميلادها، تنحني أمامها الجباه والعقول، ويناديها الناس : لبيك.. لبيك .. !!

وصحيح أنه رأى الرسول يؤثر لهمس في أيامه تلك.. ولكن لا بدّ من صيحة يصيحها هذا الثائر الجليل قبل أن يرحل.

لقد توجه الى الرسول عليه الصلاة والسلام فور اسلامه بهذا السؤال : يا رسول الله، بم تأمرني ؟ فأجابه الرسول : ترجع الى قومك حتى يبلغك أمري ..

فقال أبو ذر : والذي نفسي بيده لا أرجع حتى أصرخ بالاسلام في المسجد.. !!

ألم أقل لكم .. ؟؟

تلك طبيعة متمرّدة جيّاشة، أفي اللحظة التي يكشف فيها أبو ذر عالما جديدا بأسره يتمثل في الرسول الذي آمن به، وفي الدعوة التي سمع بتباشيرها على لسانه.. أفي هذه اللحظة يراد له أن يرجع الى أهله صامتا ؟ هذا أمر فوق طاقته .. هنالك دخل المسجد الحرام ونادى بأعلى صوته : [أشهد أن لا اله الا الله.. وأشهد أن محمدا رسول الله] ...

كانت هذه الصيحة أول صيحة بالاسلام تحدّت كبرياء قريش وقرعت أسماعها .. صاحها رجل غريب ليس له في مكّة حسب ولا نسب ولا حمى ..

ولقد لقي ما لم يكن يغيب عن فطنته أنه ملاقيه .. فقد أحاط به المشركون وضربوه حتى صرعوه ..

وترامى النبأ الى العباس عم النبي، فجاء يسعى، وما استطاع أن ينقذه من بين أنيابهم الا بالحيلة لذكية، قال له : " يا معشر قريش، أنتم تجار، وطريقكم على غفار،، وهذا رجل من رجالها، ان يحرّض قومه عليكم، يقطعوا على قوافلكم الطريق ".. فثابوا الى رشدهم وتركوه ، ولكن أبا ذر، وقد ذاق حلاوة الأذى في سبيل الله، لا يريد أن يغادر مكة حتى يظفر من طيباته بمزيد ... !!

وهكذا لا يكاد في اليوم الثاني وربما في نفس اليوم، يلقى امرأتين تطوفان بالصنمين (أساف، واثلة) ودعوانهما، حتى يقف عليهما ويسفه الصنمين تسفيها مهينا.. فتصرخ المرأتان، ويهرول الرجال كالجراد، ثم لا يفتون يضربونه حتى يفقد وعيه .. وحين يفيق يصرخ مرة أخرى بأنه " يشهد أن لا اله الا الله وأن محمدا رسول الله " ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته الباهرة على مواجهة الباطل. بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه، حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلوه ..

ويعود أبو ذر الى عشيرته وقومه، فيحدثههم عن النبي الذي ظهر يدعو الى عبادة الله وحده ويهدي لمكارم الأخلاق، ويدخل قومه في الاسلام، واحدا اثر واحد .. ولا يمتفي بقبيلته غفار، بل ينتقل الى قبيلة أسلم فيوقد فيها مصابيحه.. !!

وتتابع الأيام رحلتها في موكب الزمن، ويهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة، ويستقر بها والمسلمون معه .

وذات يوم تستقبل مشارفها صفوفا طويلة من المشاة والركبان، أثارت أقدامهم النقع.. ولولا تكبيراتهم الصادعة، لحبسهم الرائي جيشا مغيرا من جيوش الشرك .. اقترب الموكب اللجب.. ودخل المدينة.. ويمم وجهه شطر مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامه ..

لقد كان الموكب قبيلتي غفار وأسلم، جاء بهما ابو ذر مسلمين جميعا رجالا ونساءا. شيوخا وشبابا، وأطفالا.. !!

وكان من حق الرسول عليه الصلاة والسلام أن يزداد عجبا ودهشة ..

فبالأمس البعيد عجب كثيرا حين رأى أمامه رجلا واحدا من غفار يعلن اسلامه وايمانه، وقال معبّرا عن دهشته : " ان الله يهدي من يشاء " !!

أما اليوم فان قبيلة غفار بأجمعها تجيئه مسلمة..وقد قطعت في الاسلام بضع سنين منذ هداها الله على يد أبي ذر، وتجيء معها قبيلة أسلم .. ان عمالقة السطو وحلفاء الشيطان، قد أصبحوا عمالقة في الخير وحلفاء للحق .

أليس الله يهدي من يشاء حقا ؟؟

لقد ألقى الرسول عليه الصلاة والسلام على وجوههم الطيبة نظرات تفيض غبطة وحنانا وودا ..

ونظر الى قبيلة غفار وقال : " غفار غفر الله لها " ثم الى قبيلة أسلم فقال : " وأسلم سالمها الله " ..

وأبو ذر هذا الداعية الرائع.. القوي الشكيمة، العزيز المنال.. ألا يختصه الرسول عليه الصلاة والسلام بتحية ؟؟

أجل .. ولسوف يكون جزاؤه موفورا، وتحيته مباركة ..

ولسوف يحمل صدره، ويحمل تاريخه، أرفع الأوسمة وأكثرها جلالا وعزة ..

ولسوف تفنى القرون والأجيال، والناس يرددون رأي الرسول صلى الله عليه وسلم في أبي ذر : " ما أقلّت الغبراء، ولا أظلّت الصحراء أصدق لهجة من أبي ذر " .. !!

ويدرك الرسول عليه الصلاة والسلام طبيعة تلميذه الجديد الوافد، وقدرته اباهرة على مواجهة الباطل .. بيد أن وقته لم يأت بعد، فيعيد عليه أمره بالعودة الى قومه، حتى اذا سمع بظهور الدين عاد وأدلى في مجرى الأحداث دلّوه .. أصدق لهجة في أبي ذر .. ؟

لقد قرأ الرسول عليه الصلاة والسلام مستقبل صاحبه، ولخص حياته كلها في هذه الكلمات .. فالصدق الجسور، هو جوهر حياة أبي ذر كلها .. صدق باطمه، وصدق ظاهره ..

صدق عقيدته وصدق لهجته ..

ولسوف يحيا صادقا.. لا يغالط نفسه، ولا يغالط غيره، ولا يسمح لأحد أن يغالطه ..

ولئن يكون صدقه فضيلة خرساء.. فالصدق الصامت ليس صدقا عند أبي ذر ..

انما الصدق جهر وعلن.. جهر بالحق وتحد للباطل..تأييد للصواب ودحض للخطأ ..

الصدق ولاء رشيد للحق، وتعبير جريء عنه، وسير حثيث معه ..

ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم ببصيرته الثاقبة عبر الغيب القصيّ والمجهول البعيد كل المتاعب التي سيفيئها على أبي ذر صدقه وصلابته، فكان يأمره دائما أن يجعل الأناة والصبر نهجه وسبيله .

وألقى الرسول يوما هذا السؤال : " يا أبا ذر كيف أنت اذا أدركك أمراء يستأثرون بالفيء " ؟ فأجاب قائلا : " اذن والذي بعثك بالحق، لأضربن بسيفي " !! فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " أفلا أدلك على خير من ذلك.. ؟ اصبر حتى تلقاني " .

ترى لماذا سأله الرسول هذا السؤال بالذات ؟؟ الأمراء .. والمال.. ؟؟ تلك قضية أبي ذر التي سيهبها حياته، وتلك مشكلته مع المجتمع ومع المستقبل .. ولقد عرفها رسول الله فألقى عليه السؤال، ليزوده هذه النصيحة الثمينة : " اصبر حتى تلقاني " ..

ولسوف يحفظ أبوذر وصية معلمه، فلن يحمل السيف الذي توّد به الأمراء الذين يثرون من مال الأمة.. ولكنه أيضا لن يسكت عنهم لحظة من نهار ..

أجل اذا كان الرسول قد نهاه عن حمل السيف في وجوههم، فانه لا ينهاه عن أن يحمل في الحق لسانه البتار ..

ولسوف يفعل ..

ومضى عهد الرسول، ومن بعده عصر أبي بكر، وعصر عمر في تفوق كامل على مغريات الحياة ودواعي الفتنة فيها ..

حتى تلك النفوس المشتهية الراغبة، لم تكن تجد لرغباتها سبيلا ولا منفذا .

وأيامئذ، لم تكن ثمة انحرافات يرفع أبو ذر ضدها صوته ويفلحها بكلماته اللاهبة ... ولقد طال عهد أمير المؤمنين عمر، فارضا على ولاة المسلمين وأمرائهم وأغنيائهم في كل مكان من الأرض، زهدا وتقشفا، ودعلا يكاد يكون فوق طاقة البشر ..

ان واليا من ولاته في العراق، أو في الشام، أ، في صنعاء.. أو في أي من البلاد النائية البعيدة، لا يكاد يصل اليها نوعا من الحلوى، لا يجد عامة الناس قدرة على شرائه، حتى يكون الخبر قد وصل الى عمر بعد أيام، وحتى تكون أوامره الصارمة قد ذهبت لتستدعي ذلك الوالي الى المدينة ليلقى حسابه العسير .. !!

ليهنأ أبو ذر اذن .. وليهنأ أكثر ما دام الفاروق العظيم أميرا للمؤمنين .. وما دام لا يضايق أبا ذر في حياته شيء مثلما يضايقع استغلال السلطة، واحتكارالثروة ، فإن ابن الخطاب بمراقبته الصارمة للسلطة، وتوزيعه العادل للثروة سيتيح له الطمأنينة والرضا .. وهكذا تفرغ لعبادة ربه، وللجهاد في سبيله.. غير لائذ بالصمت اذا رأى مخالفة هنا، أو هناك .. وقلما كان يرى ..

بيد أن أعظم، وأعدل، وأروع حكام البشرية قاطبة يرحل عن الدنيا ذات يوم، تاركا وراءه فراغا هائلا، ومحدثا رحيله من ردود الفعل ما لا مفرّ منه ولا طاقة للناس به، وتستمر القتوح في مدّها، ويعلو معها مد الرغبات والتطلع الى مناعم الحياة وترفها .. ويرى أبو ذر الخطر ..

ان ألوية المجد الشخصي توشك أن تفتن الذين كل دورهم في الحياة أن يرفعوا راية الله ..

ان الدنيا بزخرفها وغرورها الضاري، توشك أن تفتن الذين كل رسالتهم أن يجعلوا منها مزرعة للأعمال الصالحات ..

ان المال الذي جعله الله خادما مطيعا للانسان، يوشك أن يتحوّل الى سيّد مستبد ..

ومع من ؟ مع أصحاب محمد الذي مات ودرعه مرهونة، في حين كانت أكوام الفيء والغنائم عند قدميه .. !!

ان خيرات الأرض التي ذرأها الله للناس جميعا .. وجعل حقهم فيها متكافئا توشك أن اصير حكرا ومزية ..

ان السلطة التي هي مسؤولية ترتعد من هول حساب الله عليها أفئدة الأبرار، تتحول الى سبيل للسيطرة، وللثراء، وللترف المدمر الوبيل ..

رأى أبو ذر كل هذا فلم يبحث عن واجبه ولا عن مسؤوليته.. بل راح يمد يمينه الى سيفه.. وهز به الهواء فمزقه، ونهض قائما يواجه المجتمع بسيفه الذي لم تعرف له كبوة .. لكن سرعان ما رنّ في فؤاده صدى الوصية التي أوصاه بها الرسول، فأعاد السيف الى غمده، فما ينبغي أن يرفعه في وجه مسلم ..

(وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ)

ليس دوره اليوم أن يقتل.. بل أن يعترض .. وليس السيف أداة التغيير والتقويم، بل الكلمة الصادقة، الأمينة المستبسلة .. الكلمة العادلة التي لا تضل طريقها، ولا ترهب عواقبها .

لقد أخبر الرسول يوما وعلى ملأ من أصحابه، أن الأرض لم تقلّ، وأن السماء لم تظلّ أصدق لهجة من أبي ذر ..

ومن كان يملك هذا القدر من صدق اللهجة، وصدق الاقتناع، فما حاجته الى السيف .. ؟

ان كلمة واحدة يقولها، لأمضى من ملء الأرض سيوفا ..

فليخرج بصدقه هذا، الى الأمراء.. الى الأغنياء. الى جميع الذين أصبحوا يشكلون بركونهم الى الدنيا خطرا على الدين الذي جاء هاديا، لا جابيا.. ونبوة لا ملكا،.. ورحمة لا عذابا.. وتواضعا لا استعلاء.. وتكافؤ لا تمايز.. وقناعة لا جشعا.. وكفاية لا ترفا.. واتئادا في أخذ الحياة، لا فتونا بها ولا تهالكا عليها..

فليخرج الى هؤلاء جميعا، حتى يحكم الله بينهم وبينه بالحق، وهو خير الحاكمين .

وخرج أبو ذر الى معاقل السلطة والثروة، يغزوها بمعارضته معقلا معقلا .. وأصبح في أيام معدودات الراية التي التفت حولها الجماهير والكادحون .. حتى في الأقطار النائية التي لم يره أهلها بعد .. طاره اليها ذكره ، وأصبح لا يمر بأرض، بل ولا يبلغ اسمه قوما الا أثار تسؤلات هامّة تهدد مصالح ذوي الشلطة والثراء .

ولو أراد هذا الثائر الجليل أن يتخذ لنفسه ولحركته علما خاصا لما كان الشعار المنقوش على العلم سوى مكواة تتوهج حمرة ولهبا، فقد جعل نشيده وهتافه الذي يردده في كل مكان وزمان.. ويردده الانس عنه كأنه نشيد .. هذه الكلمات : " بشّر الكانزين الذين يكنزون الذهب والفضة بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم يوم القيامة ".. !!

لا يصغد جبلا، ولا ينزل سهلا، ولا يدخل مدينة، ولا يواجه أميرا الا وهذه الكلمات على لسانه .

ولم يعد الانس يبصرونه قادما الا استقبلوه بهذه الكلمات : " بشّر الكانزين بمكاو من نار " ..

لقد صارت هذه العبارة علما على رسالته التي نذر حياته لها، حين رأى الثروات تتركز وتحتكر.. وحين رأى السلطة استعلاء واستغلال .. وحين رأى حب الدنيا يطغى ويوشك أن يطمر كل ما صنعته سنوات الرسالة العظمى من جمال وورع، وتفان واخلاص ..

لقد بدأ بأكثر تلك المعاقل سيطرة ورهبة.. هناك في الشام حيث "معاوية بن أبي سفيان" يحكم أرضا من أكثر بلاد الاسلام خصوبة وخيرا وفيضا، وانه ليعطي الأموال ويوزعها بغير حساب، يتألف بها الناس الذين لهم حظ ومكانة، ويؤمن بها مستقبله الذي كان يرنو اليه طموحه البعيد .

هناك الضياع والقصور والثروات تفتن الباقية من حملة الجعوة، فليدرك أبو ذر الخطر قبل أن يحيق ويدمّر .. وحسر زعيم المعارضة رداءه المتواضع عن ساقيه، وسابق الريح الى الشام ..

ولم يكد الناس العاديون يسمعون بمقدمه حتى استقبلوه في حماسة وشوق، والتفوا حوله أينما ذهب وسار ..

حدثنا يا أبا ذر .. حدثنا يا صاحب رسول الله ..

ويلقي أبو ذر على الجموع حوله نظرات فاحصة، فيرى أكثرها ذوي حصاصة وفقر .. ثم يرنو ببصره نحو المشارف القريبة فيرى القصور والضياع .. ثم يصرخ في الحافين حوله قائلا : " عجبت لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على الانس شاهرا سيفه ".. ؟؟!!

ثم يذكر من فوره وصية رسول الله أن يضع الأناة مكان الانقلاب، والكلمة الشجاعة مكان السيف .. فيترك لغة الحرب هذه ويعود الى لغة المنطق والاقناع، فيعلم الناس جميعا أنهم جميعا سواسية كأسنان المشط.. وأنهم جميعا شركاء في الرزق.. وأنه لا فضل لأحد على أحد الا بالتقوى.. وأن أمير القوم ووليهم، هو أول من يجوع اذا جاعوا، وآخر من شبع اذا شبعوا ..

لقد قرر أن يخلق بكلماته وشجاعته رأيا عامّا من كل بلاد الاسلام يكون له من الفطنة والمناعة، والقوة ما يجعله شكيمة لأمرائه وأغنيائه، وما يحول دون ظهور طبقات مستغلة للحكم، أو محتكرة للثروة .

وفي أيام قلائل، كانت الشام كلها كخلايا نحل وجدت ملكتها المطاعة .. ولو أعطى أبو ذر اشارة عابرة بالثورة لاشتعلت نارا .. ولكنه كما قلنا، حصر اهتمامه في خلق رأي عام يفرض احترامه، وصارت كلماته حديث المجالس والمساجد والطريق .

ولقد بلغ خطره على الامتيازات الناشئة مداه، يوم ناظر معاوية على ملأ من الناس. ثم أبلغ الشاهد للمناظرة، الغائب عنها. وسارت الرياح بأخبارها .. ولقد وقف أبو ذر أصدق العالمين لهجة، كما وصفه نبيه وأستاذه ..

وقف يسائل معاوية في غير خوف ولا مداراة عن ثروته قبل أن يصبح حاكما، وعن ثروته اليوم .. !!

وعن البيت الذي كان يسكنه بمكة، وعن قصوره بالشام اليوم .. !!

ثم يوجه السؤال للجالسين حوله من الصحابة الذين صحبوا معاوية الى الشام وصار لبعضهم قصور وضياع .

ثم يصيح فيهم جميعا : أفأنت الذين نزل القرآن على الرسول وهو بين ظهرانيهم .. ؟؟

ويتولى الاجابة عنهم : نعم أنتم الذين نزل فيكم القرآن، وشهدتم مع الرسول المشاهد ..

ثم يعود ويسأل : ألا تجدون في كتاب الله هذه الآية : (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم .. يوم يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جباههم، وجنوبهم، وظهورهم، هذا ما كنزتم لأنفسكم، فذوقوا ما كنتم تكنزون) .. ؟؟

ويختلام معاوية طريق الحديث قائلا : لقد أنزلت هذه الآية في أهل الكتاب ..

ويصيح أبو ذر : لا بل أنزلت لنا ولهم ..

ويتابع أبو ذر القول ناصحا معاوية ومن معه أن يخرجوا كل ما بأيديهم من ضياع وقصور وأموال .. وألا يدّخر أحدهم لنفسه أكثر من حاجات يومه ..

وتتناقل المحافل والجموع نبأ هذه المناظرة وأنباء أبي ذر ..

ويتعالى نشيد أبي ذر في البيوت والطرقات : (بشّر الكانزين بمكاو من نار يوم القيامة) ..

ويستشعر معاوية الخطر، وتفزعه كلمات الثائر الجليل، ولكنه يعرف له قدره، فلا يقرّ به بسوء، ويكتب عن فوره للخليفة عثمان رضي الله عنه يقول له : " ان أبا ذر قد أفسد الناس بالشام " ..

ويكتب عثمان لأبي ذر يستدعيه للمدينة .

ويحسر أبي ذر طرف ردائه عن ساقيه مرّة أخرى ويسافر الى المدينة تاركا الشام في يوم لم تشهد دمشق مثله يوما من أيام الحفاوة والوداع .. !! (لا حاجة لي في دنياكم) .. !!

هكذا قال أبو ذر للخليفة عثمان بعد أن وصل الى المدسنة، وجرى بينهما حوار طويل .

لقد خرج عثمان من حواره مع صاحبه، ومن الأنباء التي توافدت عليه من كل الأقطار عن مشايعة الجماهير لآراء أبي ذر، بادراك صحيح لخطر دعوته وقوتها وقرر أن يحتفظ به الى جواره في المدينة محددا بها اقامته .

ولقد عرض عثمان قراره على أبي ذر عرضا رفيقا، رقيقا، فقال له : " ابق هنا بجانبي، تغدو عليك اللقاح وتروح "..

وأجابه أبو ذر : (لا حاجة لي في دنياكم) !

أجل لا حاجة له في دنيا الناس .. انه من أولئك القديسين الذين يبحثون عن ثراء الروح، ويحيون الحياة ليعطوا لا ليأخذوا .. !! ولقد طلب من الخليفة عثمان رضي الله عنه أن يأذن له الخروج الى الرّبذة فأذن له ..

ولقد ظل وهو في احتدام معارضته أمينا لله ورسوله، حافظا في اعماق روحه النصيحة التي وجهها اليه الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يحمل السيف .. لكأن الرسول رأى الغيب كله .. غيب أبي ذر ومستقبله، فأهدى اليه هذه النصيحة الغالية .

ومن ثم لم يكن أبو ذر ليخفي انزعاجه حين يرى بعض المولعين بايقاد الفتنة يتخذون من دعوته سببا لاشباع ولعهم وكيدهم .

جاءه يوما وهو في الرّبدة وفد من الكوفة يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة، فزجرهم بكلمات حاسمة :

" والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة، أجبل، لسمعت، وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي .. "

" ولوسيّرني ما بين الأفق الى الأفق، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي ..

" ولو ردّني الى منزلي، لسمعت وأطعت، وصبرت واحتسبت، ورأيت ذلك خيرا لي " ..

ذلك رجل لا يريد غرضا من أغراض الدنيا، ومن ثم أفاء الله عليه نور البصيرة .. ومن ثم مرة أخرى أدرك ما تنطوي عليه الفتنة المسلحة من وبال وخطر فتحاشاها .. كما أدرك ما ينطوي عليه الصمت من وبال وخطر، فتحاشاه أيضا، ورفع صوته لا سيفه بكلمة الحق ولهجة الصدق، لا أطماع تغريه.. ولا عواقب تثنيه.. !

لقد تفرّغ أبو ذر للمعارضة الأمينة وتبتّل .

وسيقضي عمره كله يحدّق في أخطاء الحكم وأخطاء المال، فالحكم والمال يملكان من الاغراء والفتنة ما يخافه أبو ذر على اخوانه الذين حملوا راية الاسلام مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، والذين يجب أن يظلوا لها حاملين .

والحكم والمال أيضا، هما عصب الحياة للأمة والجماعات، فاذا اعتورهما الضلال تعرضت مصاير الناس للخطر الأكيد .

ولقد كان أبو ذر يتمنى لأصحاب الرسول ألا يلي أحد منهم امارة أو يجمع ثروة، وأن يظلوا كما كانوا روّاد للهدى، وعبّادا لله ..

وقد كان يعرف ضراوة الدنيا وضراوة المال، وكان يدرك أن أبا بكر وعمر لن يتكررا .. ولطالما سمع النبي صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه من اغراء الامارة ويقول عنها : ".. انها أمانة، وانها يوم القيامة خزي وندامة.. الا من أخذها بحقها، وأدّى الذي عليه فيها " ...

ولقد بلغ الأمر بأبي ذر لى تجنّب اخوانه ان لم يكن مقاطعتهم، لأنهم ولوا الامارات، وصار لهم بطبيعة الحال ثراء وفرة ..

لقيه أبو موسى الأشعري يوما، فلم يكد يراه حتى فتح له ذراعيه وهو يصيح من الفرح بلقائه :" مرحبا أبا ذر .. مرحبا بأخي " ولكن أبا ذر دفعه عنه وهو يقول: " لست بأخيك، انما كنت أخاك قبل أن تكون واليا وأميرا "..!

كذلك لقيه أبو هريرة يوما واحتضنه مرحّبا، ولكن أبا ذر نحّاه عنه بيده وقال له : (اليك عني.. ألست الذي وليت الامارة، فتطاولت في البنيان، واتخذت لك ماشية وزرعا) .. ؟؟

ومضى أبو هريرة يدافع عن نفسه ويبرئها من تلك الشائعات .. وقد يبدو أبو ذر مبالغا في موقفه من الجكم والثروة ..

ولكن لأبي ذر منطقه الذي يشكله صدقه مع نفسه، ومع ايمانه، فأبو ذر يقف بأحلامه وأعماله .. بسلوكه ورؤاه، عند المستوى الذي خلفه لهم رسول الله وصاحباه.. أبو بكر وعمر ..

واذا كان البعض يرى في ذلك المستوى مثالية لا يدرك شأوها، فان ابا ذر يراها قدوة ترسم طريق الحياة والعمل، ولا سيما لأولئك الرجال الذين عاصروا الرسول عليه السلام، وصلوا وراءه، وجاهدوا معه، وبايعوه على السمع والطاعة .

كما أنه يدرك بوعيه المضيء، ما للحكم وما للثروة من أثر حاسم في مصاير الناس، ومن ثم فان أي خلل يصيب أمانة الحكم، أو عدالة الثروة، يشكل خطرا يجب دحضه ومعارضته .

ولقد عاش أبو ذر ما استطاع حاملا لواء القدوة العظمى للرسول عليه السلام وصاحبيه، أمينا عليها، حارسا لها .. وكان أستاذ في فن التفوق على مغريات الامارة والثروة ... عرضت عليه الامارة بالعراق فقال : " لا والله .. لن تميلوا عليّ بدنياكم أبدا " .. ورآه صاحبه يوما يلبس جلبابا قديما فسأله : أليس لك ثوب غير هذا.. ؟! لقد رأيت معك منذ أيام ثوبين جديدين .. ؟ فأجابه أبو ذر : " يا بن أخي .. لقد أعطيتهما من هو أحوج اليهما مني " .. قال له : والله انك لمحتاج اليهما !!

فأجاب أب ذر : " اللهم غفر .. انك لمعظّم للدنيا، ألست ترى عليّ هذه البردة .. ؟؟ ولي أخرى لصلاة الجمعة، ولي عنزة أحلبها، وأتان أركبها، فأي نعمة أفضل ما نحن فيه ".. ؟؟

وجلس يوما يحدّث ويقول : [أوصاني خليلي بسبع .. أمرني بحب المساكين والدنو منهم .. وأمرني أن أنظر الى من هو دوني، ولاأنظر الى من هو فوقي .. وأمرني ألا أسأل أحد شيئا .. وأمرني أن أصل الرحم .. وأمرني أن أقول الحق وان كان مرّا .. وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم .. وأمرني أن أكثر من : لا حول ولا قوة الا بالله] .

ولقد عاش هذه الوصية، وصاغ حياته وفقها، حتى صار " ضميرا " بين قومه وأمته ..

ويقول الامام علي رضي الله عنه : " لم يبق اليوم أحد لا يبالي في الله لومة لائم غير أبي ذر ".. !!

عاش يناهض استغلال الحكم، واحتكار الثروة .. عاش يدحض الخطأ، ويبني الصواب ..

عاش متبتلا لمسؤولية النصح والتحذير .. يمنعونه من الفتوى، فيزداد صوته بها ارتفاعا، ويقول لمانعيه : " والذي نفسي بيده، لو وضعتم السيف فوق عنقي، ثم ظننت أني منفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تحتزوا لأنفذتها ".. !!

ويا ليت المسلمين استمعوا يومئذ لقوله ونصحه ..

اذن لما ماتت في مهدها تلك الفتن التي تفقم فيما بعد أمرها واستفحل خطرها، وعرّضت تادواة والمجتمع والاسلام لأخطار، ما كان أقساها من أخطار .

والآن يعالج أبو ذر سكرات الموت في الربذة .. المكان الذي اختار الاقامة فيه اثر خلافه مع عثمان رضي الله عنه، فتعالوا بنا اليه نؤد للراحل العظيم تحية الوداع، ونبصر في حياته الباهرة مشهد الختام .

ان هذه السيدة السمراء الضامرة، الجالسة الى جواره تبكي، هي زوجته ..

وانه ليسألها : فيم البكاء والموت حق .. ؟ فتجيبه بأنها تبكي : " لأنك تموت وليس عندي ثوب يسعك كفنا " !!

".. لا تبكي، فاني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وأنا عنده في نفر من أصحابه يقول : ليموتنّ رجل منكم بفلاة من الأرض، تشهده عصابة من المؤمنين ..

وكل من كان معي في ذلك المجلس مات في جماعة وقرية، ولم يبق منهم غيري.. وهأنذا بالفلاة أموت، فراقبي الطريق،، فستطلع علينا عصابة من المؤمنين، فاني والله ما كذبت ولا كذبت " .

وفاضت روحه الى الله .. ولقد صدق ..

فهذه القافلة التي تغذ السير في الصحراء، تؤلف جماعة من المؤمنين، وعلى رأسهم عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله .

وان ابن مسعود ليبصر المشهد قبل أن يبلغه.. مشهد جسد ممتد يبدو كأنه جثمان ميّت، والى جواره سيدة وغلام يبكيان .. ويلوي زمام دابته والركب معه صوب المشهد، ولا يكاد يلقي نظرة على الجثمان، حتى تقع عيناه على وجه صاحبه وأخيه في الله والاسلام أبي ذر .

وتفيض عيناه بالدمع، ويقف على جثمانه الطاهر يقول : " صدق رسول الله.. نمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك " !

ويجلس ابن مسعود رضي الله عنه لصحبه تفسير تلك العبارة التي نعاه بها : " تمشي وحدك.. وتموت حدك.. وتبعث وحدك " ...

كان ذلك في غزوة تبوك .. سنة تسع من الهجرة، وقد أمر الرسول عليه السلام بالتهيؤ لملاقاة الروم، الذين شرعوا يكيدون للاسلام ويأتمرون به .

وكانت الأيام التي دعى فيها الناس للجهاد أيام عسر وقيظ. .

وكانت الشقة بعيدة .. والعدو مخيفا .. ولقد تقاعس عن الخروج نفر من المسلمين، تعللوا بشتى المعاذير ..

وخرج الرسول وصحبه.. وكلما أمعنوا في السير ازدادوا جهدا ومشقة، فجعل الرجل يتخلف، ويقولون يا رسول اللهتخلف فلان، فيقول : " دعوه فان يك فيه خير فسيلحقه الله بكم وان يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه ".. !!

وتلفت القوم ذات مرة، فلم يجدوا أبا ذر .. وقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام : لقد تخلف أبو ذر، وأبطأ به بعيره ..

وأعاد الرسول مقالته الأولى .. كان بعير أبي ذر قد ضعف تحت وطأة الجوع والظمأ والحر وتعثرت من الاعياء خطاه ..

وحاول أبو ذر أن يدفعه للسير الحثيث بكل حيلة وجهد، ولكن الاعياء كان يلقي ثقله على البعير ..

ورأى أبو ذر أنه بهذا سيتخلف عن المسلمين وينقطع دونهم الأثر، فنزل من فوق ظهر البعير، وأخذ متاعه وحمله على ظهره ومضى ماشيا على قدميه، مهرولا، وسط صحراء ملتهبة، كما يدرك رسوله عليه السلام وصحبه ..

وفي الغداة، وقد وضع المسلمون رحالهم ليستريحوا، بصر أحدهم فرأى سحابة من النقع والغبار تخفي وراءها شبح رجل يغذ السير ..

وقال الذي رأى : يا رسول الله، هذا رجل يمشي على الطريق وحده ..

وقال الرسول عليه الصلاة والسلام : (كن أبا ذر) ..

وعادوا لما كانوا فيه من حديث، ريثما يقطع القادم المسافة التي تفصله عنهم، وعندها يعرفون من هو ..

وأخذ المسافر الجليل يقترب منهم رويدا .. يقتلع خطاه من الرمل المتلظي اقتلاعا، وحمله فوق ظهره بتؤدة.. ولكنه مغتبط فرحان لأنه أردك القافلة المباركة، ولم يتخلف عن رسول الله واخوانه المجاهدين ..

وحين بلغ أول القافلة، صاح صائهحم : يار سول الله : انه والله أبا ذر ..

وسار أبو ذر صوب الرسول .

ولم يكد صلى الله عليه وسلم يراه حتى تألقت على وجهه ابتسامة حانية واسية، وقال : [يرحم الله أبا ذر .. يمشي وحده.. ويموت وحده .. ويبعث وحده ..] .

وبعد مضي عشرين عاما على هذا اليوم أو تزيد، مات أبو ذر وحيدا، في فلاة الربذة .. بعد أن سار حياته كلها وحيدا على طريق لم يتألق فوقه سواه.. ولقد بعث في التاريخ وحيدا في عظمة زهده، وبطولة صموده ..

ولسوف يبعث عند الله وحيدا كذلك؛ لأن زحام فضائله المتعددة، لن يترك بجانبه مكانا لأحد سواه .. !!! .

عقد السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي اليوم اجتماعاً لمتابعة تطوير منظومة الصحة في مصر، مع الدكتور مصطفى مدبولي رئيس مجلس الوزراء، والدكتور خالد عبد الغفار وزير الصحة والسكان، والفريق أحمد الشاذلي رئيس هيئة الشئون المالية للقوات المسلحة، واللواء أحمد العزازي رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.

وصرح المستشار أحمد فهمي المتحدث الرسمي باسم رئاسة الجمهورية بأن السيد وزير الصحة عرض خلال الاجتماع الموقف التنفيذي للمشروعات الجاري العمل بها في قطاع الصحة، بما في ذلك تطوير معهد ناصر ليصبح مدينة طبية متكاملة، وإنشاء مجمع معامل مركزية جديد وفقاً لأعلى المعايير العالمية، وتطوير عدد من المستشفيات الرئيسية، من ضمنها مستشفيات أم المصريين، وهليوبوليس، والمستشفى القبطي، فضلاً عن الموقف التنفيذي لإنشاء المعهد القومي الجديد للأورام 500500، وكذلك مخطط إنشاء معهد قلب جديد بمواصفات عالمية، تعزيزاً لدور معهد القلب القومي الذي يعد من أكبر الصروح الطبية المتخصصة لخدمة مرضى القلب، بالإضافة إلى إنشاء مجمع جديد ومتكامل للصحة النفسية وعلاج الإدمان وطب المسنين.

وأضاف المتحدث الرسمي أن الاجتماع تناول أيضاً متابعة مستجدات المبادرات الرئاسية الصحية المختلفة، حيث تم استعراض النجاحات التي حققتها على مدار الأعوام السابقة لدعم صحة المواطنين بمختلف فئاتهم، ومردودها الإيجابي على التخطيط الصحي على المستوى الوطني، وفي مقدمتها مبادرة "١٠٠ مليون صحة" للقضاء على فيروس "سي"، وكذلك مبادرة دعم صحة المرأة للكشف عن الأورام، فضلاً عن مبادرة "إنهاء قوائم الانتظار" التي نجحت في علاج حوالي مليون و٦٣٢ ألف مريض، إلى جانب مبادرة فحص المقبلين على الزواج، والتي ساهمت بدورها في فحص حوالي ٦٧ ألف شخص، بالإضافة إلى المبادرات الرئاسية لدعم صحة الأم والجنين، والأطفال حديثي الولادة، وطلاب المدارس، والكشف عن الأمراض الوراثية، والرعاية الصحية لكبار السن. 

وذكر المتحدث باسم رئاسة الجمهورية أن السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي وجه بمواصلة الجهود الجارية لتحسين إتاحة وجودة الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، مشيراً إلى أن ملف الصحة يحتل أولوية متقدمة في جدول أعمال الدولة، ويحظى باهتمام كبير وعمل مكثف للتغلب على التحديات الهيكلية التي تواجهه، بهدف التحسين المستمر لمنظومة الصحة، بما يحقق صالح المواطنين المصريين من جميع الفئات.

مع الأيام الفضيلة في شهر الخير، شهر رمضان المبارك، أطلق الفنان الإماراتي حسين الجسمي دعاء رمضاني حمل عنوان "رحمن و رحيم"، قدم في كلماته إحساس عال من مشاعر الرضا والطمأنينة والتفاؤل برب العالمين، حيث تعاون في كلمات الدعاء مع الشاعر محمد مصطفى ملك، والملحن محمود أنور، ومع الموزع كريم أسامه، داعياً فيه قائلاً:

ده عظيم و كريم .. رحمن ورحيم .. الله الله الله

ده غفور و رؤوف ..  تواب وصبور .. الله  الله

هو حامينا..  الله .. وبنوره هادينا.. الله

خيره مالينا.. الله الله  .. هو رازقنا..  الله

هو  اللي خالقنا.. الله.. هو حبيبنا.. الله الله  

ويحمل دعاء "رحمن و رحيم" كلمات متيقنة بقرب رب العالمين دائماً، خاصة وأنه الستار والحافظ وهو الغفور الرحيم، حيث يقول في المقطع الثاني منه:

نبعد و نغيب .. ندعيك يا مجيب

نلاقيك جنبنا على طول

مش عايزه سؤال .. عالم بالحال

دايماً من غير ما نقول

نغلط يستر ..  الله

 ماهو رحمته أكبر ..  الله

دايما يغفر  .. الله الله

وقد عرض الجسمي دعاء "رحمن و رحيم" في قناته الرسمية في موقع الـ YouTube من خلال فيديو ممنتج حمل كلمات الدعاء، وعبر جميع الإذاعات الخليجية والعربية، وجميع المنصات والمكتبات المتخصصة في العرض والبث.

 

ملاحظة: مرفق رابط دعاء "رحمن و رحيم" من موقع youtube

https://youtu.be/5X5gviCkN-4

أعرب معالي السيد عادل بن عبدالرحمن العسومي رئيس البرلمان العربي، عن استنكاره الشديد لقيام أحد المتطرفين بإحراق نسخة من المصحف الشريف في العاصمة الدنماركية كوبنهاغن أمس، محذرا بشدة من خطورة تكرار مثل هذه الأعمال الاستفزازية التي تؤجج مشاعر الكراهية وتحرض على العنف، وتهدد أمن واستقرار المجتمعات.

واعتبر رئيس البرلمان العربي -في بيان له- أن إحراق المصحف الشريف هو عمل همجي خاصة وأننا في شهر رمضان المعظم وتستنكره كافة القوانين والمواثيق الدولية، كما أنه يتنافى مع القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية، داعيا إلى ضرورة العمل على نشر قيم التسامح والتعايش السلمي وقبول الآخر والابتعاد عن الاساءة للأديان ورموزها.

وأكد رئيس البرلمان العربي أن هؤلاء المتطرفين لن يحققوا أغراضهم الدنيئة، فالدين الإسلامي سوف يظل شامخا في مواجهة هذه الحملات الممنهجة التي لن تنال منه ابدا، داعيا المجتمع الدولي للتصدى بقوة لمثل هذه الأعمال ومنع الإساءة للأديان كافة.

تحدّث وهو على قمة عمره الطويل فقال : " لقد بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فما نكثت ولا بدّلت الى يومي هذا .. وما بايعت صاحب فتنة .. ولا أيقظت مؤمنا من مرقده " ..

وفي هذه الكلمات تلخيص لحياة الرجل الصالح الذي عاش فوق الثمانين، والذي بدأت علاقته بالاسلام والرسول، وهو في الثالثة عشر من العمر، حين صحب أباه في غزوة بدر، راجيا أن يكون له بين المجاهدين مكان، لولا أن ردّه الرسول عليه السلام لصغر سنه ..

من ذلك اليوم .. بل وقبل ذلك اليوم حين صحب أباه في هجرته الى المدينة.. بدأت صلة الغلام ذي الرجولة المبكرة بالرسول عليه السلام والاسلام ..

ومن ذلك اليوم الى اليوم الذي يلقى فيه ربه، بالغا من العمر خمسة وثمانين عاما، سنجد فيه حيثما نلقاه، المثابر الأوّاب الذي لا ينحرف عن نهجه قيد أشعرة، ولا يند عن بيعة بايعها، ولا يخيس بعهد أعطاه ..

وان المزايا التي تأخذ الأبصار الى عبد الل بن عمر لكثيرة .

فعلمه وتواضعه، واستقامة ضميره ونهجه، وجوده، وورعه، ومثابرته، على العبادة وصدق استمساكه بالقدوة ..

كل هذه الفضائل والخصال، صاغ ابن عمر عمره منها، وشخصيته الفذة، وحياته الطاهرة الصادقة ..

لقد تعلم من أبيه عمر بن الخطاب خيرا كثيرا .. وتعلم مع أبيه من رسول الله الخير كله والعظمة كلها ..

لقد أحسن كأبيه الايمان بالله ورسوله .. ومن ثم، كانت متابعته خطى الرسول أمرا يبهر الألباب ..

فهو ينظر، ماذا كان الرسول يفعل في كل أمر، فيحاكيه في دقة واخبات ..

هنا مثلا، كان الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي .. فيصلي ابن عمر في ذات المكان ..

وهنا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يدعو قائما، فيدعو ابن عمر قائما ...

وهنا كان الرسول يدعو جالسا، فيدعو عبد الله جالسا ..

وهنا وعلى هذا الطريق نزل الرسول يوما من فوق ظهر ناقته، وصلى ركعتين، فصنع ابن عمر ذلك اذا جمعه السفر بنفس البقعة والمكان ..

بل انه ليذكر أن ناقة الرسول دارت به دورتين في هذا المكان بمكة، قبل أن ينزل الرسول من فوق ظهرها، ويصلي ركعتين، وقد تكون الناقة فعلت ذلك تلقائيا لتهيئ لنفسها مناخها .

لكن عبد الله بن عمر لا يكاد يبلغ ها المكان يوما حتى يدور بناقته، ثم ينيخها، ثم يصلي ركعتين لله .. تماما كما رأى المشهد من قبل مع رسول الله .. ولقد أثار فرط اتباعه هذا، أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقالت : "ما كان أحد يتبع آثار النبي صلى الله عليه وسلم في منازله، كما كان يتبعه ابن عمر " .

ولقد قضى عمره الطويل المبارك على هذا الولاء الوثيق، حتى لقد حاء على المسلمين زمان كان صالحهم يدعو ويقول : " اللهم أبق عبد الله بن عمر ما أبقيتني، كي أقتدي به، فاني لا أعلم أحد على الأمر الأول غيره " .

وبقوة هذا التحري لشديد الويق لخطى لبرسول وسنته، كان ابن عمر يتهيّب الحديث عن رسول الله ولا يروي عنه عليه السلام حديثا الا اذا كان ذاكرا كل حروفه، حرفا.. حرفا .

وقد قال معاصروه .. " لم يكن من أصحاب رسول الله أحد أشد حذرا من ألا يزيد في حديث رسول الله أو ينقص منه، من عبد الله بن عمر " .. !!

وكذلك كان شديد الحذر والتحوّط في الفتيا .. جاءه يوما رجل يستفتيه، فلماألقى على ابن عمر سؤاله أجابه قائلا : " لا علم لي بما تسأل عنه "

وذهب الرجل في سبيله، ولا يكاد يبتعد عن ابن عمر خطوات حتى يفرك ابن عمر كفه جذلان فرحا ويقول لنفسه : " سئل ابن عمر عما لا يعلم، فقال لا أعلم " .. !

كان يخاف أن يجتهد في فتياه، فيخطئ في اجتهاده، وعلى الرغم من أنه يحيا وفق تعاليم الدين العظيم، للمخطئ أجر وللمصيب أجرين، فان ورعه أن يسلبه ورعه كان يسلبه الجسارة على الفتيا .

وكذلك كان ينأى به عن مناصب القضاة .. لقد كانت وظيفة القضاء من أرقع مناصب الدولة والمجتمهع، وكانت تضمن لشاغرها ثراء، وجاها، ومجدا ..

ولكن ما حاجة ابن عمر الورع للثراء، وللجاه، وللمجد .. ؟! 

دعاه يوما الخليفة عثمان رضي الله عنهما، وطلب اليه أن يشغل منصب القضاة، فاعتذر .. وألح عليه عثمان، فثابر على اعتذاره .. وسأله عثمان : أتعصيني ؟؟ فأجاب ابن عمر : " كلا .. ولكن بلغني أن القضاة ثلاثة .. قاض يقضي بجهل، فهو في النار .. وقاض يقضي بهوى، فهو في النار .. وقاض يجتهد ويصيب، فهو كفاف، لا وزر، ولا أجر .. واني لسائلك بالله أن تعفيني " .. وأعفاه عثمان، بعد أن أخذ عليه العهد ألا يخبر أحدا بهذا .

ذلك أن عثمان يعلم مكانة ابن عمر في أفئدة الناس، وانه ليخشى اذا عرف الأتقياء الصالحون عزوفه عن القضاء أن يتابعوا وينهجوا نهجه، وعندئذ لا يجد الخليفة تقيا يعمل قاضيا .. وقد يبدو هذا الموقف لعبد الله بن عمر سمة من سمات السلبية .

بيد أنه ليس كذلك، فعبد الله بن عمر لم يمتنع عن القضاء وليس هناك من يصلح له سواه .. بل هناك كثيرون من أصحاب رسول الله الورعين الصالحين، وكان بعضهم يشتغل بالقضاء والفتية بالفعل ..

ولم يكن في تخلي ابن عمر عنه تعطيل لوظيفة القضاء، ولا القاء بها بين أيدي الذين لا يصلحون لها .. ومن ثمّ قد آثر البقاء مع نفسه، ينمّيها ويزكيها بالمزيد من الطاعة، والمزيد من العبادة ..

كما أنه في ذلك الحين من حياة الاسلام، كانت الدنيا قد فتحت على المسلمين وفاضت الأموال، وكثرت المناصب والامارات .

وشرع اغراء المال والمناصب يقترب من بعض القلوب المؤمنة، مما جعل بعض أصحاب الرسول، ومنهم ابن عمر، يرفعون راية المقاومة لهذا الاغراء باتخذهم من أنفسهم قدوة ومثلا في الزهد والورع والعزوف عن المانصب الكبيرة، وقهر فتنتها واغرائها ...

لقد كان ابن عمر، أخا الليل، يقومه مصليا .. وصديق السحر يقطعه مستغفرا وباكيا ..

ولقد رأى في شبابه رؤيا، فسرها الرسول تفسيرا جعل قيام الليل منتهى آمال عبد الله، ومناط غبطته وحبوره ..

ولنصغ اليه يحدثنا عن نبأ رؤياه : " رأيت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن بيدي قطعة استبرق، وكأنني لا أريد مكانا في الجنة الا طارت بي اليه .. ورأيت كأن اثنين أتياني، وأرادا أن يذهبا بي الى النار، فتلقاهما ملك فقال: لا ترع، فخليّا عني .. فقصت حفصة - أختي - على النبي صلى الله عليه وسلم رؤياي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل فيكثر " .. ومن ذلك اليوم والى أن لقي ربه، لم يدع قيام الليل في حله، ولا في ترحاله ..

فكان يصلي ويتلو القرآن، ويذكر ربه كثيرا .. وكان كأبيه، تهطل دموعه حين يسمع آيات النذير في القرآن .

يقول عبيد بن عمير : قرأت يوما على عبد الله بن عمر هذه الآية : (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا* يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) .. فجعل ابن عمر يبكي حتى نديت لحيته من دموعه .

وجلس يوما بين اخوانه فقرأ : (ويل للمطففين، الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون، واذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون، ألا يظن أولئك أنهم ميعوثون، ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين) ..

ثم مضى يردد الآية : ( .. يوم يقوم الناس لرب العالمين) .

ودموعه تسيل كالمطر، حتى وقع من كثرة وجده وبكائه .. !!

ولقد كان جوده، وزهده، وورعه، تعمل معا في فن عظيم، لتشكل أروع فضائل هذا الانسان العظيم .. فهو يعطي الكثير لأنه جواد .. ويعطي الحلال الطيب لأنه ورع .. ولا يبالي أن يتركه الجود فقيرا، لأنه زاهد.. !!

وكان ابن عمر رضي الله عنه، من ذوي الدخول الرغيدة الحسنة، اذ كان تاجرا أمينا ناجحا شطر حياته، وكان راتبه من بيت المال وفيرا .. ولكنه لم يدخر هذا العطاء لنفسه قط، انما كان يرسله غدقا على الفقراء، والمساكين والسائلبن ..

يحدثنا أيوب بن وائل الراسبي عن أحد مكرماته، فيخبرنا أن ابن عمر جاءه يوما بأربعة آلافدرهم وقطيفة ..

وفي اليوم التالي، رآه أيوب بن وائل في السوق يشتري لراحلته علفا نسيئة – أي دينا - ..

فذهب ابن وائل الى أهل بيته وسالهم أليس قد أتى لأبي عبد الرحمن – يعني ابن عمر – بالأمس أربعة آلاف، وقطيفة .. ؟ قالوا : بلى .. قال : فاني قد رأيته اليوم بالسوق يشتر علفا لراحلته ولا يجد معه ثمنه .. قالوا : انه لم يبت بالأمس حتى فرقها جميعها، ثم أخذ القطيفة وألقاها على ظهره، خرج .. ثم عاد وليست معه، فسألناه عنها، فقال : انه وهبها لفقير .. !! فخرج ابن وائل يضرب كفا بكف، حتى أتى السوق فتوقل مكانا عاليا، وصاح في الناس : " يا معشر التجار .. ما تصنعون بالدنيا، وهذا بن عمر تأتيه الف درهم فيوزعها، ثم يصلح فيستدين علفا لراحلته ".. ؟؟!!

ألا ان من كان محمد أستاذه، وعمر أباه ، لعظيم، كفء لكل عظيم .. !!

ان وجود عبد الله بن عمر، وزهزد وورعه، هذه الخصال الثلاثة، كانت تحكي لدى عبد الله صدق القدوة .. وصدق البنوّة .. فما كان لمن يمعن في التأسي برسول الله، حتى انه ليقف بناقته حيث رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يوقف ناقته، ويقول " لعل خفا يقع على خف " !

والذي يذهب برأيه في برأبيه وتوقيره والاعجاب به الى المدى الذي كانت شخصية عمر تفرضه على الأعداء، فضلا عن الأقرباء، فضلا عن الأبناء ..

أقول ما ينبغي لمن ينتمي لهذا الرسول، ولهذا الوالد أن يصبح للمال عبدا ..

ولقد كانت الأموال تاتيه وافرة كثيرة .. ولكنها تمر به مرورا .. وتعبر داره عبورا ..

ولم يكن جوده سبيلا الى الزهو، والا الى حسن الأحدوثة .

ومن ثم، فقد كان يخص به المحتاجين والفقراء .. وقلما كان يأكل الطعام وحده .. فلا بد أن يكون معه أيتام، أو فقراء .. وطالما كان يعاتب بعض أبنائه، حين يولمون للأغنياء، ولا يأتون معهم بالفقراء، ويقول لهم : " تدعون الشباع، وتدعون الجياع " .. !!

وعرف الفقراء عطفه، وذاقوا حلاوة بره وحنانه، فكانوا يجلسون في طريقه، كي يصحبهم الى داره حين يراهم .. وكانوا يحفون به كما تحف أفواج النحل بالأزاهير ترتشف منها الرحيق .. !

لقد كان المال بين يديه خادما لا سيدا ،، وكان وسيلة لضروات العيش لا للترف ..

ولم يكن ماله وحده، بل كان للفقراء فيه حق معلوم، بل حق متكافئ لا يتميز فيه بنصيب ..

ولقد أعانه على هذا الجود الواسع زهده .. فما كان ابن عمر يتهالك على الدنيا، ولا يسعى اليها، بل ولا رجو منها الا كا يستر الجسد من لباس، ويقيم الأود من الطعام ..

أهداه أحد اخوانه القادمين من خراسان حلة ناعمة أنيقة، وقال له : لقد جئتك بهذا الثوب من خراسان، وانه لتقر عيناي، اذ أراك تنزع عنك ثيابك الخشنة هذه، وترتدي هذا الثوب الجميل .. قال له ابن عمر : أرنيه اذن .. ثم لمسه وقال : أحرير هذا ؟ قال صاحبه : لا.. انه قطن .. وتملاه عبد الله قليلا، ثم دفعه بيمينه وهويقول : " لا، اني أخاف على نفسي .. أخاف ان يجعلني مختالا فخورا .. والله لا يحب كل مختال فخور " .. !!

وأهداه يوما صديقا وعاء مملوءا .. وسأله ابن عمر : ما هذا ؟ قال : هذا دواء عظيم جئتك به من العراق .. قال ابن عمر : وماذا يطبب هذا الدواء .. ؟؟ قال : يهضم الطعام .. فابتسم ابن عمر وقال لصاحبه : " يهضم الطعام .. ؟ اني لم أشبع من طعام قط منذ أربعين عاما " !!

ان هذا الذي لم يشبع من الطعام منذ أربعين عاما، لم يكنيترك الشبع خصاصة، بلزهدا وورعا، ومحاولة للتاسي برسوله وأبيه ..

كان يخاف أن يقال له يوم القيامة : (أذهبتم طيّباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها) .. وكان يدرك انه في الدنيا ضيف أو عابر شبيل .. ولقد تحدث عن نفسه قائلا : "ما وضعت لبنة على لبنة، ولا غرست نخلة منذ توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم " ..

ويقول ميمون بن مهران : " دخلت على ابن عمر، فقوّمت كل شيء في بيته من فراش، ولحاف وبساط. ومن كل شيء فيه، فما وجدته تساوي مئة ردهم ".. !!

لم يكن ذلك عن فقر، ز قد كان ابن عمر ثريا .. ولا كان ذلك عن بخل فقد كان جوّدا سخيا ..

زامكا كان عن زهد في الدنيا، وازدراء للترف، والتزام لمنهجه في الصدق والورع ..

ولقد عمّر ابن عمر طويلا، وعاش في العصر الأموي الذي فاضت فيها لأموال وانتشرت الضياع، وغطى البذخ أكث الدور .. بل قل أكثر القصور ..

ومع هذا، بقي ذلك الطود الجليل شامخا ثابتا، لا يبرح نهجه ولا يتخلى عن ورعه وزهده .

واذا ذكّر بحظوظ الدنيا ومتاعها التي يهرب منها قال : " لقد اجتمعت وأصحابي على أمر، واني أخاف ان خالفتهم ألا ألأحق بهم " ..

ثم يعلم الآخرين أنه لم يترك دنياهم عجزا، فيرفع يده الى السماء ويقول : " اللهم انك تعلم أنه لولا مخافتك لزاحمنا قومنا قريشا في هذه الدنيا " .

أجل .. لولا مخافة ربه لزاحم في الدنيا، ولكان من الظافرين .. بل انه لم يكن بحاجة الى أن يزاحم، فقد كانت الدنيا تسعى اليه وتطارده بطيباتها ومغرياتها .. وهل هناك كمنصب الخلافة اغراء .. ؟

لقد عرض على ابن عمر مرات وهو يعرض عنه .. وهدد بالقتل ان لم يقبل، فازداد له رفضا، وعنه اعراضا.. !!

يقول الحسن رضي الله عنه : " لما قتل عثمان بن عفان، قالوا لعبد الله بن عمر : انك سيّد الناس، وابن سيد الناس، فاخرج نبايع لك الناس .. قال : ان والله لئن استطعت، لا يهراق بسببي محجمة من دم .. قالوا : لتخرجن، أو لنقتلنكك على فراشك .. فأعاد عليهم قوله الأول فأطمعوه وخوّفوه ..فما استقبلوا منه شيئا ".. !!

وفيما بعد .. وبينما الزمان يمر، والفتن تكثر، كان ابن عمر دوما هو الأمل، فيلح الناس عليه، كي يقبل منصب الخلافة، ويجيئوا له بالبيعة، ولكنه كان دائما يأبى .. ولقد يشكل هذا الرفض مأخذا يوجه الى ابن عمر ..

بيد أن كان له منطقه وحجته، فبعد مقتل عثمان رضي الله عنه، ساءت الأمور وتفاقمت على نحو ينذر بالسوء والخطر ..

وابن عمر وان يك زاهدا في جاه الخلافة، فانه يتقبل مسؤلياتها ويحمل أخطارها، ولكن شريطة أن يختاره جميع المسلمين طائين، مختارين، أما أن يحمل واحد لا غير على بيعته بالسيف، فهذا ما يرفضه، ويرفض الخلافة معه ..

وآنئذ، لم يكن ذلك ممكنا.. فعلى الرغم من فضله، واجماع المسلمين على حبه وتوقيره، فان اتساع الأمصار، وتنائبها، والخلافات التي احتدمت بين المسلمين، وجعلتهم شيعا تتنابذ بالحرب، وتتنادى للسيف، لم يجعل الجو مهيأ لهذا الاجماع الذي يشترطه عبد الله بن عمر ..

لقيه رجل يوما فقال له : ما أحد شر لأمة محمد منك .. ! قال ابن عمر : ولم .. ؟ فوالله ما سفكت دماءهم، ولا فرقت جماعتهم، ولا شققت عصاهم .. قال الرجل : انك لو شئت ما اختلف فيك اثنان .. قال ابن عمر : ما أحب أنها أتتني، ورجل يقول : لا، وآخر يقول : نعم .

وحتى بعد أن سارت الأحداث شوطا طويلا، واستقر الأمر لمعاوية .. ثم لابنه يزيد من بعده، ثم ترك معاوية الثاني ابن يزيد الخلافة زاهدا فيها بعد أيام من توليها .. حتى في ذلك اليوم، وابن عمر شيخ مسن كبير، كان لا يزال أمل الناس، وأمل الخلافة .. فقد ذهب اليه مروان قال له : هلم يدك نبايع لك، فانك سيد العرب وابن سيدها .. قال له ابن عمر : كيف نصنع بأهل المشرق .. ؟ قال مروان : نضربهم حتى يبايعوا .. قال ابن عمر : " والله ما أحب أنها تكون لي سبعين عاما، ويقتل بسببي رجل واحد " .. !! فانصرف عنه مروان وهو ينشد : اني أرى فتنة تغلي مراجلها والملك بعد أبي ليلى لمن غلبا

يعني بأبي ليلى، معاوية بن يزيد ...

هذا الرفض لاستعمال القوة والسيف، هو الذي جعل ابن عمر يتخذ من الفتنة المسلحة بين أنصار علي وأنصار معاوية، موقف العزلة والحياد جاعلا شعاره ونهجه هذه الكلمات : " من قال حي على الصلاة أجبته .. ومن قال حي على الفلاح أجبته .. ومن قال حي على قتل أخيك المسلم واخذ ماله قلت : لا " !!

ولكنه في عزلته تلك وفي حياده، لا يماليء باطلا .. فلطالما جابه معاوية وهو في أوج سلطانه بتحديات أوجعته وأربكته .. حتى توعده بالقتل، وهو القائل : " لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت " .. !!

وذات يوم، وقف الحجاج خطيبا ، فقال : " ان ابن الزبير حرّف كتاب الله " ! فصاح ابن عمر في وجهه : "  كذبت، كذبت، كذبت " وسقط في يد الحجاج، وصعقته المفاجأة، وهو الذي يرهبه كل شيء، فمضى يتوعد ابن عمر بشرّ جزاء ..

ولوح ابن عمر بذراعه في وجه الحجاج، وأجابه الناس منبهرون : " ان تفعل ما تتوعد به فلا عجب، فانك سفيه متسلط " .. !!

ولكنه برغم قوته وجرأته ظل الى آخر أيامه، حريصا على ألا يكون له في الفتنة المسلحة دور ونصيب، رافضا أن ينحاز لأي فريق ... يقول أبو العالية البراء : " كنت أمشي يوما خلف ابن عمر وهو لا يشعر بي فسمعته يقول لنفسه : " واضعين سيوفهم على عواتقهم يقتل بعضهم بعضا يقولون : يا عبد الله بن عمر أعط يدك "؟!

وكان ينفجر أسى وألما، حين يرى دماء المسلمين تسيل بأيديهم !!

ولو استطاع أن يمنع القتال، ويصون الدم لفعل، ولكن الأحداث كانت أقوى منه فاعتزلها .

ولقد كان قلبه مع علي رضي الله عنه، بل وكان معه يقينه فيما يبدو، حتى لقد روي عنه أنه قال في أخريات أيامه : " ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا الا أني لم أقاتل مع عليّ، الفئة الباغية ".. !!

على أنه حين رفض أن يقاتل مع الامام علي الذي كان الحق له، وكان الحق معه، فانه لم يفعل ذلك هربا، والا التماسا للنجاة.. بل رفضا للخلاف كله، والفتنة كلها، وتجنبا لقتال لا يدو بين مسلم ومشرك، بل بين مسلمين يأكل بعضهم بعضا ..

ولقد أوضح ذلك تماما حين سأله نافع قال : " يا أبا عبد الرحمن، أنت ابن عم .. وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت وأنت، فما يمنعك من هذا الأم يعني نصرة علي ؟؟ فأجابه قائلا : " يمنعني أن الله تعالى حرّم عليّ دم المسلم، لقد قال عز وجل : (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين ..) ولقد فعلنا وقاتلنا المشركين حتى كان الدين لله، اما اليوم، فيم نقاتل .. ؟؟ لقد قاتلت الأوثان تملأ الحرم .. من الركن الى الباب، حتى نضاها الله من أرض العرب ..

أفأقاتل اليوم من يقول لا اله الا الله " ؟!

هكذا كان منطقه، وكانت حجته، وكان اقتناعه ..

فهو اذن لم يتجنب القتال ولم يشترك فيه، لاهروبا، أ، سلبية، بل رفضا لاقرار حرب أهلية بين الأمة المؤمنة، واستنكافا على أن يشهر مسلم في وجه مسلم سيفا ..

ولقد عاش عبد الله بن عمر طويلا .. وعاصر الأيام التي فتحت أبواب الدنيا على المسلمين، وفاضت الأموال، وكثرت المناصب، واستشرت المطامح والرغبات ..

لكن قدرته النفسية الهائلة، غيّرت كيمياء الومن .. !! فجعلت عصر الطموح والمال والفتن .. جعلت هذا العصر بالنسبة اليه، أيام زهد، وورع ويلام، عاشها المثابر الأواب بكل يقينه، ونسكه وترفعه.. ولم يغلب قط على طبيعته الفاضلة التي صاغها وصقلها الاسلام في أيامه الأولى العظيمة الشاهقة ..

لقد تغيّرت طبيعة الحياة، مع بدء العصر الأموي، ولم يكن ثمّة مفر من ذلك التغيير.. وأصبح العصر يومئذ، عصر توسع في كل شيء .. توسع لم تستجب اليه مطامح الدولة فحسب، بل ومطامح الجماعة والأفراد أيضا .

ووسط لجج الاغراء، وجيشان العصر المفتون بمزايا التوسع، وبمغانمه، ومباهجه، كان ابن عمر يعيش مع فضائله، في شغل عن ذلك كله بمواصلة تقدمه الروحي العظيم .

ولقد أحرز من أغراض حياته الجليلة ما كان يرجو حتى لقد وصفه معاصروعه فقالوا : (مات ابن عمر وهو مثل عمر في الفضل) بل لقد كان يطيب لهم حين يبهرهم ألق فضائله، أن يقارنوا بينه وبين والده العظيم عمر .. فيقولون : (كان عمر في زمان له فيه نظراء ، وكان ابن عمر في زمان ليس فيه نظير) .. !!

وهي مبالغة يغفرها استحقاق ابن عمر لها، أما عمر فلا يقارن بمثله أحد .. وهيهات أن يكون له في كل عصور الزمان نظير ..

وفي العام الثاث والسبعين للهجرة .. مالت الشمس للمغيب، ورفعت احدى سفن الأبدية مراسيها، مبحرة الى العالم الآخر والرفيق الأعلى، حاملة جثمان آخر ممثل لعصر الوحي _ في مكة والمدينة_ عبد الله بن عمر بن الخطاب، كان آخر الصحابة رحيلا عن الدنيا كلها أنس بن مالك رضي الله عنه، توفي بالبصرة، عام واحد وتسعين، وقيل عام ثلاث وتسعين .

كان عمر بن الخطاب، اذا ذكر أبو بكر قال : " أبو بكر سيدنا وأعتق سيّدنا ".. يعني بلالا رضي الله عنه ..

وان رجلا يلقبه عمر بسيدنا هو رجل عظيم ومحظوظ. .

لكن هذا الرجل الشديد السمرة، النحيف الناحل، المفرط الطول الكث الشعر، الخفيف العارضين، لم يكن يسمع كلمات المدح والثناء توجه اليه وتغدق عليه الا ويحني رأسه ويغض طرفه ويقول وعبراته على وجنتيه تسيل :

" انما أنا حبشي .. كنت بالأمس عبدا ".. !! فمن هذا الحبشي الذي كان بالأمس عبدا.. !!

انه " بلال بن رباح " مؤذن الاسلام، ومزعج الأصنام .. انه احدى معجزات الايمان والصدق ، احدى معجزات الاسلام العظيم .. في كل عشرة مسلمين ، منذ بدأ الاسلام الى اليوم، والى ما شاء الله سنلتقي بسبعة على الأقل يعرفون بلالا ..

أي أن هناك مئات الملايين من البشر عبر القرون والأجيال عرفوا بلالا، وحفظوا اسمه، وعرفوا دوره. تماما كما عرفوا أعظم خليفتين في الاسلام: أبي بكر وعمر ... !!

وانك لتسأل الطفل الذي لا يزال يحبو في سنوات دراسته الأولى في مصر، أو باكستان ، أو الصين .. وفي الأمريكيتين ، وأوروبا وروسيا .. وفي العراق، وسوريا، وايران والسودان .. في تونس والمغرب والجزائر .. في أعماق أفريقيا، وفوق هضاب آسيا .. في كل يقعة من الأرض يقتنها مسلمون، تستطيع أن تسأل أي طفل مسلم : من بلال يا غلام ؟ فيجيبك : انه مؤذن الرسول .. وانه العبد الذي كان سيّده يعذبه بالحجارة المستعرّة ليردّه عن دينه، فيقول :

" أحد .. أحد .. "

وحينما تبصر هذا الخلود الذي منحه الاسلام بلالا.. فاعلم أن بلال هذا، لم يكن قبل الاسلام أكثر من عبد رقيق، يرعى ابل سيّده على حفنات من التمر، حتى يطو به الموت، ويطوّح به الى أعماق النسيان ..

لكن صدق ايمانه، وعظمة الدين الذي آمن به بوأه في حياته، وفي تاريخه مكانا عليّا في الاسلام بين العظماء والشرفاء والكرماء ... ان كثيرا من عليّة البشر، وذوي الجاه والنفوذ والثروة فيهم، لم يظفروا بمعشار الخلود الذي ظفر به بلال العبد الحبشي.. !! بل ان كثيرا من أبطال التاريخ لم ينالوا من الشهرة التاريخية بعض الذي ناله بلال ..

ان سواد بشرته، وتواضع حسبه ونسبه، وهوانه على الانس كعبد رقيق، لم يحرمه حين آثر الاسلام دينا، من أن يتبوأ المكان الرفيع الذي يؤهله له صدقه ويقينه، وطهره، وتفانيه ..

ان ذلك كله لم يكن له في ميزان تقييمه وتكريمه أي حساب، الا حساب الدهشة حين توجد العظمة في غير مظانها .. فلقد كان الناس يظنون أن عبدا مثل بلال، ينتمي الى أصول غريبة .. ليس له أهل، ولا حول، ولا يملك من حياته شيئا، فهو ملك لسيّده الذي اشتراه بماله.. يروح ويغدو وسط شويهات سيده وابله وماشيته .. كانوا يظنون أن مثل هذا الكائن، لا يمكن أن يقدر على شيء ولا أن يكون شيئا ..

ثم اذا هو يخلف الظنون جميعا، فيقدر على ايمان، هيهات أن يقدر على مثله سواه.. ثم يكون أول مؤذن للرسول والاسلام العمل الذي كان يتمناه لنفسه كل سادة قريش وعظمائها من الذين أسلموا واتبعوا الرسول.. !! أجل .. بلال بن رباح ! أيّة بطولة .. وأيّة عظمة تعبر عنها هذه الكلمات الثلاث بلال ابن رباح.. ؟!

انه حبشي من أمة السود ... جعلته مقاديره عبدا لأناس من بني جمح بمكة، حيث كانت أمه احدى امائهم وجواريهم .. كان يعيش عيشة الرقيق تمضي أيامه متشابهة قاحلة لا حق له في يومه ولا أمل له في غده !!

ولقد بدأت أنباء محمد تنادي سمعه، حين أخذ الانس في مكة يتناقلونها، وحين كان يصغي الى أحاديث ساداته وأضيافهم، سيما " أمية بن خلف " أحد شيوخ بني جمح القبيلة التي كان بلال أحد عبيدها .. لطالما سمع أمية وهو يتحدّث مع أصدقائه حينا، وأفراد قبيلته أحيانا عن الرسول حديثا يطفح غيظا، وغمّا وشرا ..

وكانت أذن بلال تلتقط من بين كلمات الغيظ المجنون، الصفات التي تصور له هذا الدين الجديد .. وكان يحس أنها صفات جديدة على هذه البيئة التي يعيش فيها .. كما كانت أذنه تلتقط من خلال أحاديثهم الراعدة المتوعدة اعترافهم بشرف محمد وصدقه وأمانته .. !!

أجل انه ليسمعهم يعجبون، ويحارون، في هذا الذي جاء به محمد .. !! ويقول بعضهم لبعض : ما كان محمد يوما كاذبا . ولا ساحرا .. ولا مجنونا .. وان ام يكن لنا بد من وصمه اليوم بذلك كله، حتى نصدّ عنه الذين سيسارعون الى دينه .. !!

سمعهم يتحدّثون عن أمانته .. عن وفائه .. عن رجولته وخلقه .. عن نزاهته ورجاحة عقله .. وسمعهم يتهامسون بالأسباب التي تحملهم على تحديّ وعداوته، تلك هي : ولاؤهم لدين آبائهم أولا، والخوف على مجد قريش ثانيا، ذلك المجد الذي يفيئه عليها مركزها الديني، كعاصمة للعبادة والنسك في جزيرة العرب كلها، ثم الحقد على بني هاشم، أن يخرج منهم دون غيرهم نبي ورسول ... !

وذات يوم يبصر بلال ب رباح نور الله، ويسمع في أعماق روحه الخيّرة رنينه، فيذهب الى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسلم .. ولا يلبث خبر اسلامه أن يذيع.. وتدور الأرض برؤوس أسياده من بني جمح.. تلك الرؤوس التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور .. !! وتجثم شياطين الأرض فوق صدر أميّة بن خلف الذي رأى في اسلام عبد من عبيدهم لطمة جللتهم جميعا بالخزي والعار ..

عبدهم الحبشي يسلم ويتبع محمد .. ؟! ويقول أميّة لنفسه : ومع هذا فلا بأس.. ان شمس هذا اليوم لن تغرب الا ويغرب معها اسلام هذا العبد الآبق .. !! ولكن الشمس لم تغرب قط باسلام بلال بل غربت ذات يوم بأصنام قريش كلها، وحماة الوثنية فيها ... !

أما بلال فقد كان له موقف ليس شرفا للاسلام وحده، وان كان الاسلام أحق به، ولكنه شرف للانسانية جميعا ..

لقد صمد لأقسى الوان التعذيب صمود البرار العظام .

ولكأنما جعله الله مثلا على أن سواد البشرة وعبودية الرقبة لا ينالان من عظمة الروح اذا وجدت ايمانها، واعتصمت بباريها، وتشبثت بحقها .. لقد أعطى بلال درسا بليغا للذين في زمانه، وفي كل مان، للذين على دينه وعلى كل دين .. درسا فحواه أن حريّة الضمير وسيادته لا يباعان بملء الأرض ذهبا، ولا بملئها عذابا .. د وضع عريانا فوق الجمر، على أن يزيغ عن دينه، أو يزيف اقتناعه فأبى ..

لقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام، والاسلام، من هذا العبد الحبشي المستضعف أستاذا للبشرية كلها في فن احترام الضمير، والدفاع عن حريته وسيادته ..

لقد كانوا يخرجون به في الظهيرة التي تتحول الصحراء فيها الى جهنم قاتلة.. فيطرحونه على حصاها الماتهب وهو عريان، ثم يأتون بحجر مستعر كالحميم ينقله من مكانه بضعة رجال، ويلقون به فوق جسده وصدره ..

ويتكرر هذا العذاب الوحشي كل يوم، حتى رقّت لبلال من هول عذابه بعض قلوب جلاديه، فرضوا آخر الأمر أن يخلوا سبيله، على أن يذكر آلهتهم بخير ولو بكلمة واحدة تحفظ لهم كبرياءهم، ولا تتحدث قريش أنهم انهزموا صاغرين أمام صمود عبدهم واصراره ..

ولكن حتى هذه الكلمة الواحدة العابرة التي يستطيع أن يلقيها من وراء قلبه، ويشتري بها حياته نفسه، دون أن يفقد ايمانه، ويتخلى عن اقتناعه .. حتى هذه الكلمة الواحدة رفض بلال أن يقولها .. ! نعم لقد رفض أن يقولها، وصار يردد مكانها نشيده الخالد : " أحد أحد " يقولون له : قل كما نقول .. فيجيبهم في تهكم عجيب وسخرية كاوية : " ان لساني لا يحسنه ".. !!

ويظل بلال في ذوب الحميم وصخره، حتى اذا حان الأصيل أقاموه، وجعلوا في عنقه حبلا، ثم أمروا صبيانهم أن يطوفوا به جبال مكة وشوارعها، وبلال لا يلهج لسانه بغير نشيده المقدس : " أحد أحد " .

وكأني اذا جنّ عليهم الليل يساومونه : غدا قل كلمات خير في آلهتنا، قل ربي اللات والعزى، لنذرك وشأتك، فقد تعبنا من تعذيبك، حتى لكأننا نحن المعذبون ! فيهز رأسه ويقول : " أحد.. أحد .." .

ويلكزه أمية بن خلف وينفجر غمّا وغيظا، ويصيح : أي شؤم رمانا بك يا عبد السوء.. ؟ واللات والعزى لأجعلنك للعبيد والسادة مثلا ، ويجيب بلال في يقين المؤمن وعظمة القديس : " أحد .. أحد .. "

ويعود للحديث والمساومة، من وكل اليه تمثيل دور المشفق عليه، فيقول : خل عنك يا أميّة.. واللات لن يعذب بعد اليوم، ان بلالا منا أمه جاريتنا، وانه لن يرضى أن يجعلنا باسلامه حديث قريش وسخريّتها .. ويحدّق بلال في الوجوه الكاذبة الماكرة، ويفتر ثغره عن ابتسامة كضوء الفجر، ويقول في هدوء يزلزلهم زلزالا : " أحد .. أحد .. "

وتجيء الغداة وتقترب الظهيرة، ويؤخذ بلال الى الرمضاء، وهو صابر محتسب، صامد ثابت .

ويذهب اليهم أبو بكر الصديق وهو يعذبونه، ويصيح بهم : (أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله) ؟؟

ثم يصيح في أميّة بن خلف: خذ أكثر من ثمنه واتركه حرا .. وكأنما كان أمية يغرق وأدركه زورق النجاة ..

لقد طابت نفسه وسعدت حين سمع أبا بكر يعرض ثمن تحريره اذ كان اليأس من تطويع لال قد بلغ في في نفوسهم أشده، ولأنهم كانوا من التجار، فقد أردكوا أن بيعه أربح لهم من موته .. باعوه لأبي بكر الذي حرّره من فوره، وأخذ بلال مكانه بين الرجال الأحرار ... وحين كان الصدّيق يتأبط ذراع بلال منطلقا به الى الحرية قال له أمية : خذه، فواللات والعزى، لو أبيت الا أن تشتريه بأوقية واحدة لبعتكه بها .. وفطن أبو بكر لما في هذه الكلمات من مرارة اليأس وخيبة الأمل وكان حريّا بألا يجيبه ..

ولكن لأن فيها مساسا بكرامة هذا الذي قد صار أخا له، وندّا، أجاب أمية قائلا : والله لو أبيتم أنتم الا مائة أوقية لدفعتها .. !! وانطلق بصاحبه الى رسول الله يبشره بتحريره .. وكان عيدا عظيما !

وبعد هجرة الرسول والمسلمين الى المدينة، واستقرارهم بها، يشرّع الرسول للصلاة أذانها ..

فمن يكون المؤذن للصلاة خمس مرات كل يوم..؟ وتصدح عبر الأفق تكبيراته وتهليلاته .. ؟

انه بلال.. الذي صاح منذ ثلاث عشرة سنة والعذاب يهدّه ويشويه أن : " الله أحد .. أحد " .

لقد وقع اختيار الرسول عليه اليوم ليكون أول مؤذن للاسلام .

وبصوته النديّ الشجيّ مضى يملأ الأفئدة ايمانا، والأسماع روعة وهو ينادى :

الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر

أشهد أن لااله الا الله .. أشهد أن لا اله الا الله

أشهد أن محمدا رسول الله .. أشهد أن محمدا رسول الله

حي على الصلاة .. حي على الصلاة

حي على الفلاح .. حي على الفلاح

الله أكبر .. الله أكبر

لااله الا الله ...

ونشب القتال بين المسلمين وجيش قريش الذي قدم الى المدينة غازيا ..

وتدور الحرب عنيفة قاسية ضارية .. وبلال هناك يصول ويجول في أول غزوة يخوضها الاسلام، غزوة بدر .. تلك الغزوة التي أمر الرسول عليه السلام أن يكون شعارها: " أحد ..أحد " .

في هذه الغزوة ألقت قريش بأفلاذ أكبادها، وخرج أشرافها جميعا لمصارعهم .. !!

ولقد همّ بالنكوص عن الخروج " أمية بن خلف " .. هذا الذي كان سيدا لبلال، والذي كان يعذبه في وحشيّة قاتلة ..

همّ بالنكوص لولا أن ذهب اليه صديقه " عقبة بن أبي معيط " حين علم عن نبأ تخاذله وتقاعسه، حاملا في يمينه مجمرة حتى اذا واجهه وهو جالس وسط قومه، ألقى الجمرة بين يديه وقال له : يا أبا علي، استجمر بهذه فانما أنت من النساء .. !!! وصاح به أمية قائلا : قبحك الله، وقبّح ما جئت به .. ثم لم يجد بدّا من الخروج مع الغزاة فخرج ..

أيّة أسرار للقدر، يطويها وينشرها .. ؟

لقد كان عقبة بن أبي معيط أكبر مشجع لأمية على تعذيب بلال، وغير بلال من المسلمين المستضعفين ..

واليوم هو نفسه الذي يغريه بالخروج الى غزوة بدر التي سيكون فيها مصرعه .. !! كما سيكون فيها مصرع عقبة أيضا ! لقد كان أمية من القاعدين عن الحرب ولولا تشهير عقبة به على هذا النحو الذي رأيناه لما خرج !!

ولكن الله بالغ أمره، فليخرج أمية فان بينه وبين عبد من عباد الله حسابا قديما، جاء أوان تصفيته، فالديّان لا يموت، وكما تدينون تدانون .. !!

وان القدر ليحلو له أن يسخر بالجبارين .. فعقبة الذي كان أمية يصغي لتحريضه، ويسارع الى هواه في تعذيب المؤمنين الأبرياء، هو نفسه الذب سيقود أميّة الى مصرعه .. وبيد من .. ؟ بيد بلال نفسه.. وبلال وحده !! نفس اليد التي طوّقها أميّة بالسلاسل، وأوجع صاحبها ضربا، وعذابا ..

مع هذه اليد ذاتها، هي اليوم، وفي غزوة بدر، على موعد أجاد القدر توقيته، مع جلاد قريش الذي أذل المؤمنين بغيا وعدوا .. ولقد حدث هذا تماما ..

وحين بدأ القتال بين الفريقين ، وارتج جانب المعركة من قبل المسلمين بشعارهم : " أحد .. أحد " انخلع قلب أمية، وجاءه النذير .. ان الكلمة التي كان يرددها بالأمس عبد تحت وقع العذاب والهول قد صارت اليوم شعار دين بأسره وشعار الأمة الجديدة كلها.. !! " أحد .. أحد " ؟؟ !! أهكذا ؟ وبهذه السرعة .. وهذا النمو العظيم ؟؟

وتلاحمت السيوف وحمي القتال .. وبينما المعركة تقترب من نهايتها، لمح أمية بن خلف " عبد الرحمن بن عوف " صاحب رسول الله، فاحتمى به، وطلب اليه أن يكون أسيره رجاء أن يخلص بحياته .. وقبل عبد الرحمن عرضه وأجاره، ثم سار به وسط العمعمة الى مكان السرى .

وفي الطريق لمح بلال فصاح قائلا : " رأس الكفر أميّة بن خلف .. لا نجوت ان نجا " .

ورفع سيفه ليقطف الرأس الذي لطالما أثقله الغرور والكبر، فصاح به عبد الرحمن بن عوف : " أي بلال .. انه أسيري "

أسير والحرب مشبوبة دائرة .. ؟ أسير وسيفه يقطر دما مما كان يصنع قبل لحظة في أجساد المسلمين .. ؟ لا .. ذلك في رأي بلال ضحك بالعقول وسخرية.. ولقد ضحك أمية وسخر بما فيه الكفاية .. سخر حتى لم يترك من السخرية بقية يدخرها ليوم مثل هذا اليوم، وهذا المأزق، وهذا المصير .. !!

ورأى بلال أنه لن يقدر وحده على اقتحام حمى أخيه في الدين عبد الرحمن بن عوف، فصاح بأعلى صوته في المسلمين : " يا أنصار الله .. رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت ان نجا " ... !

وأقبلت كوكبة من المسلمين تقطر سيوفهم المنايا، وأحاطت بأمية وابنه ولم يستطع عبد الرحمن بن عوف أن يصنع شيئا .. بل لم يستطع أن يحمي أذراعه التي بددها الزحام .

وألقى بلال على جثمان أمية الذي هوى تحت السيوف القاصفة نظرة طويلة، ثم هرول عنه مسرعا وصوته النديّ يصيح : " أحد .. أحد .. "

لا أظن أن من حقنا أن نبحث عن فضيلة التسامح لدى بلال في مثل هذا المقام ..

فلو أن اللقاء بين بلال وأمية تمّ في ظروف أخرى، لجازنا أن نسال بلالا حق التسامح، وما كان لرجل في مثل ايمانه وتقاه أن يبخل به .

لكن اللقاء الذي تم بينهما، كان في حرب، جاءها كل فريق ليفني غريمه ..

السيوف تتوهج .. والقتلى يسقطون.. والمنايا تتواثب، ثم يبصر بلال أمية الذي لم يترك في جسده موضع أنملة الا ويحمل آثار تعذيب ، وأين يبصره وكيف .. ؟

يبصره في ساحة الحرب والقتال يحصد بسيفه كل ما يناله من رؤوس المسلمين، ولو أدرك رأس بلال ساعتئذ لطوّح به .. في ظروف كهذه يلتقي الرجلان فيها، لا يكون من المنطق العادل في شيء أن نسأل بلالا : لماذا لم يصفح الصفح الجميل .. ؟؟ وتمضي الأيام وتفتح مكة .. ويدخلها الرسول شاكرا مكبرا على رأس عشرة آلاف من المسلمين .. ويتوجه الى الكعبة رأسا .. هذا المكان المقدس الذي زحمته قريش بعدد أيام السنة من الأصنام.. !! لقد جاء الحق وزهق الباطل ..

ومن اليوم لا عزى .. ولا لات .. ولا هبل .. لن يجني الانسان بعد اليوم هامته لحجر، ولا وثن .. ولن يعبد الناس ملء ضمائرهم الا الله الي ليس كمثله شيء، الواحد الأحد، الكبير المتعال .. ويدخل الرسول الكعبة، مصطحبا معه بلال.. !

ولا يكاد يدخلها حتى يواجه تمثالا منحوتا، يمثل ابراهيم عليه السلام وهو يستقسم بالأزلام، فيغضب الرسول ويقول : " قاتلهم الله .. ما كان شيخنا يستقسم بالأزلام.. ما كان ابراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين " .

ويأمر بلال أن يعلو ظهر المسجد، ويؤذن ، ويؤذن بلال .. فيالروعة الزمان، واملكان، والمناسبة.. !!

كفت الحياة في مكة عن الحركة، ووقفت الألوف المسلمة كالنسمة الساكنة، تردد في خشوع وهمس كلمات الآذان وراء بلال ، والمشركون في بيوتهم لا يكادون يصدقون : أهذا هو محمد وفقراؤه الذين أخرجوا بالأمس من هذا الديار .. ؟؟ أهذا هو حقا، ومعه عشرة آلاف من المؤمنين .. ؟؟ أهذا هو حقا الذي قاتلناه، وطاردنبه وقتلنا أحب الناس اليه ؟ أهذا هو حقا الذي كان يخاطبنا من لحظات ورقابنا بين يديه ويقول لنا : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " !!

ولكن ثلاثة من أشراف قريش، كانوا جلوسا بفناء الكعبة، وكأنما يلفحهم مشهد بلال وهو يدوس أصنامهم بقدميه، ويرسل من فوق ركامها المهيل صوته بالأذان المنتشر في آفاق مكة كلها كعبير الربيع ..

أما هؤلاء الثلاثة فهم، أبوسفيان بن حرب، وكان قد أسلم منذ ساعات، وعتّاب بن أسيد، والحارث بن هشام، وكانا لم يسلما بعد .

قال عتاب وعينه على بلال وهو يصدح بأذانه : لقد أكرم الله اسيدا، ألا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه، وقال الحارث : أما والله لو أعلم أن محمدا محق لاتبعته .. !!

وعقب أبو سفيان الداهية على حديثهما قائلا : اني لا أقول شيئا، فلو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى !! وحين غادر النبي الكعبة رآهم، وقرأ وجوههم في لحظة، قال وعيناه تتألقان بنور الله، وفرحة النصر : قد علمت الذي قلتم .. !!!

ومضى يحدثهم بما قالوا .. فصاح الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول الله، والله ما سمعنا أحد فنقول أخبرك .. !!

واستقبلا بلال بقلوب جديدة .. في أفئدتهم صدى الكلمات التي سمعوها في خطاب الرسول أول دخول مكة :

" يامعشر قريش .. ان الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء .. الناس من آدم وآدم من تراب "..

وعاش بلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يشهد معه المشاهد كلها، يؤذن للصلاة، ويحيي ويحمي شعائر هذا الدين العظيم الذي أخرجه من الظلمات الى النور، ومن الرق الى الحريّة ..

وعلا شأن الاسلام، وعلا معه شأن المسلمين، وكان بلال يزداد كل يوم قربا من قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يصفه بأنه : " رجل من أهل الجنة " ..

لكن بلالا بقي كما هو كريما متواضعا، لا يرى نفسه الا أنه : " الحبشي الذي كان بالأمس عبدا ".. !!

ذهب يوما يخطب لنفسه ولأخيه زوجتين فقال لأبيهما : " أنا بلال، هذا أخي عبدان من الحبشة .. كنا ضالين فهدانا الله .. ومنا عبدين فأعتقنا الله .. ان تزوّجونا فالحمد لله .. وان تمنعونا فالله أكبر .. " !!

وذهب الرسول الى الرفيق الأعلى راضيا مرضيا، ونهض بأمر المسلمين من بعده خليفته أبو بكر الصديق ..

وذهب بلال الى خليفة رسول الله يقول له : " يا خليفة رسول الله .. اني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أفضل عمل للمؤمن الجهاد في سبيل الله " .. فقال له أبو بكر : فما تشاء يا بلال .. ؟ قال : أردت أن أرابط في سبيل الله حتى أموت .. قال أبو بكر ومن يؤذن لنا ؟ قال بلال وعيناه تفيضان من الدمع، اني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله .

قال أبو بكر : بل ابق وأذن لنا يا بلال .. قال بلال : ان كنت أعتقتني لأكون لك فليكن لك ما تريد، وان كنت أعتقتني لله فدعني وما أعتقتني له .. قال أبو بكر : بل أعتقتك لله يا بلال .. ويختلف الرواة، فيروي بعضهم أنه سافر الى الشام حيث بقي فيها مجاهدا مرابطا .

ويروي بعضهم الآخر، أنه قبل رجاء أبي بكر في أن يبقى معه بالمدينة، فلما قبض وولي عمر الخلافة استأذنه وخرج الى الشام .

على أية حال، فقد نذر بلال بقية حياته وعمره للمرابطة في ثغور الاسلام، مصمما أن يلقى الله ورسوله وهو على خير عمل يحبانه .

ولم يعد يصدح بالأذان بصوته الشجي الحفيّ المهيب، ذلك أنه لم ينطق في أذانه " أشهد أن محمدا رسول الله " حتى تجيش به الذمؤيات فيختفي صوته تحت وقع أساه، وتصيح بالكلمات دموعه وعبراته .

وكان آخر أذان له أيام زار أمير المؤمنين عمر وتوسل المسلمون اليه أن يحمل بلالا على أن يؤذن لهم صلاة واحدة .

ودعا أمير المؤمنين بلال، وقد حان وقت الصلاة ورجاه أن يؤذن لها .

وصعد بلال وأذن .. فبكى الصحابة الذين كانوا أدركوا رسول الله وبلال يؤذن له .. بكوا كما لم يبكوا من قبل أبدا .. وكان عمر أشدهم بكاء.. !!

ومات بلال في الشام مرابطا في سبيل الله كما أراد .

وتحت ثرى دمشق يثوي اليوم رفات رجل من أعظم رجال البشر صلابة في الوقوف الى جانب العقيدة والاقتناع.

افتتح الشيخ ماجد راضي وكيل وزارة الاوقاف بالسويس اليوم الجمعة الأولي من شهر رمضان المبارك مسجد اهل بدر بمدينة احمد زويل  إدارة عتاقه بحضور العميد إيهاب سراج الدين السكرتير العام المساعد واللواء عارف البركاوي رئيس حي عتاقة تنفيذا لتوجيهات الأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف وبرعاية كريمة من اللواء أ. ح. عبدالمجيد صقر محافظ السويس والقيادات التنفيذية والشعبية ..

قال الشيخ ماجد راضي وكيل وزارة الاوقاف بالسويس في خطبته اليوم بمسجد اهل بدر ان رمضان الفضيل موسم النفحات الإلهية والعطايا الربانية حيث يقول نبينا محمد صلي الله عليه وسلم " إن لربكم عزوجل في أيام دهركم لنفحات فتعرضوا لها لعل احدكم ان تصيبه منها نفحة لا يشقي بعدها ابدا "  وبين صلي الله عليه وسلم قائلا " من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ...

وتابع ان الصوم مدرسة مكارم الأخلاق والقيم والعبادات لا توتي ثمرتها الحقيقية الا اذا هذبت وقومت سلوك صاحبها  فمن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له ومن لم ينهه حجه عن الفسوق والعصيان فلا حج له ومن لم ينهه صيامه عن سيئ الأخلاق من الكذب والغش والغدر والخيانة والاحتكار واكل الحرام واستغلال أزمة الناس فلا صيام له ...

 واضاف : قال تعالي " إن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي... " وقال تعالي " الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولاجدال في الحج ... " وقال صلي الله عليه وسلم " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة ان يدع طعامه وشرابه.. " 

وفي الختام سائلا الله أن يجعل رمضان خير وامان وسلام علي مصرنا وأهلها...

فوجيء المارة منذ قليل بعد اداء صلاة التراويح باشتعال النيران في سيارة ملاكي بالقرب من لفظ الجلالة بمدينة السلام 1 محافظة السويس ووفاة قائدها محترقا بداخلها.

تلقت غرفة عمليات اسعاف السويس بلاغا باشتعال النيران في احدى السيارات الملاكي التي تحمل لوحات معدنية برقم ( ط س  م 3584) بالقرب من لفظ الجلالة بمدينة السلام 1 محافظة السويس ووفاة قائدها بداخلها ولم يتم التعرف على هويته وتم نقل الجثمان الى مشرحة مستشفى السويس العام .

انتقلت ايضا الى مكان الحادث قوات الحماية المدنية التي تمكنت من السيطرة على الحريق 

تم اتخاذ كافة الاجراءات القانونية

 

استطاع  Power Creators من كلية هندسة السويس، والمشترك في مسابقة حافز الابتكار ٢٠٢٣، أن يتأهل للمرحلة النهائية في المسابقة، وذلك عقب اجتيازه التصفيات الأولى والثانية التي نظمها صندوق رعاية المبتكرين والنوابغ ضمن فعاليات المسابقة التي أطلقها الصندوق في فبراير الماضي برعاية أ.د. محمد أيمن عاشور وزير التعليم العالى والبحث العلمى. 

وبهذه المناسبة وجه أ.د. السيد الشرقاوي رئيس جامعة السويس التحية لأعضاء الفريق، مؤكدا على دعمه المستمر لهم ولكافة أبناء الجامعة في مختلف الفعاليات والمنافسات التي تصقل مهاراتهم وتكسبهم الكثير من الخبرات العملية في مجال دراستهم، هذا وقد ثمَّن رئيس الجامعة ما قام به أعضاء الفريق من جهد للوصول إلى هذا المستوى المتميز.

ومن جانبه صرح أ.د. أشرف حنيجل عميد كلية الهندسة أن أعضاء الفريق المتأهل هم : 

علي عبدالله العربي

احمد حسن سليمان

مروان محمود حسان

محمد سعد عبداللطيف

احمد عبدالموجود احمد

كما أوضح "عميد الكلية" أن مسابقة حافز الابتكار Innovation Catalyst 2023: هي مسابقة تستهدف الطلاب المبتكرين بالجامعات المصرية من جميع التخصصات العلمية المختلفة، والذين لديهم أفكار ابتكارية تعالج الصعوبات وتحقق احتياجات في السوق وتتغلب على التحديات الموجودة. 

جدير بالذكر أن تنظيم ومتابعة الفريق تم تحت اشراف د. محمد عزيز وكيل الكلية لشئون الطلاب، د.أحمد فرج الاستاذ المساعد بقسم الهندسة الميكانيكية بكلية الهندسة .

قبل أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم، كان عبد الله بن مسعود قد آمن به، وأبح سادس ستة أسلموا واتبعوا الرسول، عليه وعليهم الصلاة والسلام ..

هو اذن من الأوائل المبكرين ..

ولقد تحدث عن أول لقائه برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " كنت غلاما يافعا، أرعى غنما لعقبة بن أبي معيط فجاء النبي صلى الله عليه وسلم، وأبوبكر فقالا : يا غلام، هل عندك من لبن تسقينا .. ؟؟ فقلت : اني مؤتمن، ولست ساقيكما ..

فقال النبي عليه الصلاة والسلام : هل عندك من شاة حائل، لم ينز عليها الفحل .. ؟ قلت : نعم .. فأتيتهما بها، فاعتلفها النبي ومسح الضرع .. ثم اتاه أبو بكر بصخرة متقعرة، فاحتلب فيها، فشرب أبو بكر ثم شربت .. ثم قال للضرع : اقلص، فقلص .. فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعد لك، فقلت: علمني من هذا القول .. فقال: انك غلام معلم " ...

لقد انبهر عبد الله بن مسعود حين رأى عبد الله الصالح ورسوله الأمين يدعو ربه، ويمسح ضرعا لا عهد له باللبن بعد، فهذا هو يعطي من خير الله ورزقه لبنا خالصا سائغا للشاربين .. !!

وما كان يدري يومها، أنه انما يشاهد أهون المعجزات وأقلها شأنا، وأنه عما قريب سيشهد من هذا الرسول الكريم معجزات تهز الدنيا، وتلمؤها هدى ونور ..

بل ما كان يدري يومها، أنه وهو ذلك الغلام الفقير الضعيف الأجير الذي يرعى غنم عقبة بن معيط، سيكون احدى هذه المعجزات يوم يخلق الاسلام منه منه مؤمنا بايمانه كبرياء قريش، ويقهر جبروت ساداتها ..

فيذهب وهو الذي لم يكن يجرؤ أن يمر بمجلس فيه أحد أشراف مكة الا مطرق الرأس حثيث الخطى .. نقول : يذهب بعد اسلامه الى مجمع الأشراف عند الكعبة، وكل سادات قريش وزعمائها هنالك جالسون فيقف على رؤوسهم . ويرفع صوته الحلو المثير بقرآن الله : (بسم الله الرحمن الرحيم، الرحمن، علّم القرآن، خلق الانسان، علّمه البيان، الشمس والقمر بحسبان، والنجم والشجر يسجدان) .

ثم يواصل قراءته،وزعماء قريش مشدوهون، لا يصدقون أعينهم التي ترى .. ولا آذانهم التي تسمع .. ولا يتصورون أن هذا الذي يتحدى بأسهم .. وكبريائهم .. انما هو أجير واحد منهم، وراعي غنم لشريف من شرفائهم .. عبد الله بن مسعود الفقير المغمور .. !!

ولندع شاهد عيان يصف لنا ذلك المشهد المثير ..

انه الزبير رضي الله عنه يقول : " كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، اذ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : والله ما سمعت قريش مثل هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه .. ؟؟ فقال عبد الله بن مسعود : أنا .. قالوا : ان نخشاهم عليك، انما نريد رجلا له عشيرته يمنعونه من القوم ان أرادوه .. قال : دعوني، فان الله سيمنعني .. فغدا ابن مسعود حتى اتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم _رافعا صوته_ الرحمن * علم القرآن، ثم استقبلهم يقرؤها ..

فتأملوه قائلين : ما يقول ابن ام عبد .. ؟؟ انه ليتلو بعض ما جاء به محمد ..

فقاموا اليه وجعلوا يضربون وجهه، وهو ماض في قراءته حتى بلغ منها ما شا الله أن يبلغ .. ثم عاد الى أصحابه مصابا في وجهه وجسده، فقالوا له : هذا الذي خشينا عليك .. فقال : ما كان أعداء الله أهون عليّ منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينّهم بمثلها غدا .. قالوا : حسبك، فقد أسمعتهم ما يكرهون ".. !!

أجل ما كان ابن مسعود يوم بهره الضرع الحافل باللبن فجأة وقبل أوانه .. ما كان يومها يعلم أنه هو ونظراؤه من الفقراء والبسطاء، سيكونون احدى معجزات الرسول الكبرى يوم يحملون راية الله، ويقهرون بها نور الشمس وضوء النهار .. !!

ما كان يعلم أن ذلك اليوم قريب .. ولكن سرعان ما جاء اليوم ودقت الساعة، وصار الغلام الأجير الفقير الضائع معجزة من المعجزات .. !!

لم تكن العين لتقع عليه في زحام الحياة .. بل ولا بعيدا عن الزحام .. !!

فلا مكان له بين الذين أوتوا بسطة من المال، ولا بين الذين أوتوا بسطة في الجسم، ولا بين الذين أوتوا حظا من الجاه .. فهو من المال معدم.. وهو في الجسم ناحل، ضامر .. وهو في الجاه مغمور ..

ولكن الاسلام يمنحه مكان الفقر نصيبا رابيا وحظوظا وافية من خزائن كسرى وكنوز قيصر .. !

ويمنحه مكان ضمور جسمه وضعف بنيانه ارادة تقهر الجبارين، وتسهم في تغيير مصير التاريخ.. !

ويمنحه مكان انزوائه وضياعه، خلودا، وعلما وشرفا تجعله في الصدارة بين أعلام التاريخ .. !!

ولقد صدقت فيه نبوءة الرسول عليه الصلاة والسلام يوم قال له : " انك غلام معلّم " فقد علمه ربه، حتى صار فقيه الأمة، وعميد حفظة القرآن جميعا .

يقول على نفسه:

" أخذت من فم رسول الله صلى الله عليه زسلم سبعين سورة، لا ينازعني فيها أحد " ..

ولكأنما أراد الله مثوبته حين خاطر بحياته في سبيل ان يجهر بالقرآن ويذيعه في كل مكان بمكة أثناء سنوات الاضطهاد والعذاب فأعطاه سبحانه موهبة الأداء الرائع في تلاوته، والفهم السديد في ادراك معانيه ..

ولقد كان رسول الله يوصي أصحابه أن يقتدوا بابن مسعود فيقول : " تمسّكوا بعهد ابن أم عبد " .

ويوصيهم بأن يحاكوا قراءته، ويتعلموا منه كيف يتلو القرآن .

يقول عليه السلام : " من أحب أن يسمع القرآن عصّا كما أنزل فليسمعه من ابن أم عبد " ..

" من أحب أن يقرأ القرآن غصا كما أنزل، فليقرأه على قراءة ابن أم عبد ".. !!

ولطالما كان يطيب لرسول الله عليه السلام أن يستمع للقرآن من فم ابن مسعود ..

دعاه يوما الرسول، وقال له : " اقرأ عليّ يا عبد الله " ..

قال عبد الله : " أقرأ عليك، وعليك أنزل يا رسول الله" ؟!

فقال له الرسول : " اني أحب أن أسمعه من غيري " ..

فأخذ ابن مسعود يقرأ من سورة النساء حتى وصل الى قوله تعالى : (فكيف اذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا * يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا) .. فغلب البكاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفاضت عيناه بالدموع، وأشار بيده الى ابن مسعود : أن " حسبك.. حسبك يا ابن مسعود " ..

وتحدث هو بنعمة الله فقال : " والله ما نزل من القرآن شيء الا وأنا أعلم في أي شيء نزل، وما أحد أعلم بكتاب الله مني، ولو أعلم أحدا تمتطى اليه الابل أعلم مني بكتاب الله لأتيته وما أنا بخيركم" !!

ولقد شهد له بهذا السبق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال عنه أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه : " لقد ملئ فقها "..

وقال أبو موسى الأشعري : " لا تسألونا عن شيء ما دام هذا الحبر فيكم "

ولم يكن سبقه في القرآن والفقه موضع الثناء فحسب .. بل كان كذلك أيضا سبقه في الورع والتقى .

يقول عنه حذيفة : " ما رأيت أحدا أشبه برسول الله في هديه، ودلّه، وسمته من ابن مسعود ...

ولقد علم المحفوظون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن ابن ام عبد لأقربهم الى الله زلفى".. !!

واجتمع نفر من الصحابة يوما عند علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه فقالوا له : "يا أمير المؤمنين، ما رأينا رجلا كان أحسن خلقا ولا أرفق تعليما، ولا أحسن مجالسة، ولا أشد ورعا من عبد الله بن مسعود .. قال علي : نشدتكم الله، أهو صدق من قلوبكم .. ؟؟ قالوا : نعم .. قال : اللهم اني أشهدك .. اللهم اني أقول مثل ما قالوا ،أو أفضل ..

لقد قرأ القرآن فأحلّ حلاله، وحرّم حرامه .. فقيه في الدين، عالم بالسنة ".. !

وكان أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام يتحدثون عن عبد الله بن مسعود فيقولون : " ان كان ليؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا " ..

وهم يريدون بهذا، أن عبد الله رضي الله عنه كان يظفر من الرسول صلى الله عليه وسلم بفرص لم يظفر بها سواه، فيدخل عليه بيته أكثر مما يدخل غيرهو ويجالسه أكثر مما يجالس سواه، وكان دون غيره من الصّحب موضع سرّه ونجواه، حتى كان يلقب بـ صاحب السواد أي صاحب السر ..

يقول أبو موسى الشعري رضي الله عنه : " لقد رأيت النبي عليه الصلاة والسلام، وما أرى الا ابن مسعود من أهله " .. ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبّه حبا عظيما، وكان يحب فيه ورعه وفطنته، وعظمة نفسهK حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيه : " لو كنت مؤمّرا أحدا دون شورى المسلمين لأمّرت ابن أم عبد " .

وقد مرّت بنا من قبل، وصية االرسول لأصحابه : " تمسكوا بعهد ابن أم عبد " ...

وهذا الحب، وهذه الثقة أهلاه لأن يكون شديد لبقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعطي ما لم يعط أحد غيره حين قال له الرسول عليه الصلاة والسلام : " اذنك عليّ أن ترفع الحجاب " ..

فكان هذا ايذانا بحقه في أن يطرق باب الرسول عليه أفضل السلام في أي وقت يشاء من ليل أو نهار ...

وهكذا قال عنه أصحابه:

" كان يؤذن له اذا حججنا، ويشهد اذا غبنا "..

ولقد كان ابن مسعود أهلا لهذه المزيّة.. فعلى الرغم من أن الخلطة الدانية على هذا النحو، من شأنها أن ترفع الكلفة، فان ابن مسعود لم يزدد بها الا خشوعا، واجلالا، وأدبا ..

ولعل خير ما يصوّر هذا الخلق عنده، مظهره حين كان يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته ...

فعلى الرغم من ندرة تحدثه عن الرسول عليه السلام، نجده اذا حرّك شفتيه ليقول: سمعت رسول الله يحدث ويقول : سمعت رسول الله يحدث ويقول ... تأخذه الرّعدة الشديدة ويبدو عليه الاضطراب والقلق، خشية أن ينسى فيضع حرفا مكان حرف .. !!

ولنستمع لاخوانه يصفون هذه الظاهرة ..

يقول عمرو بن ميمون : " اختلفت الى عبد الله بن مسعود سنة، ما سمعته يتحدث فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الا أنه حدّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه : قال رسول الله، فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدّر عن جبهته، ثم قال مستدركا قريبا من هذا قال الرسول ".. !!

ويقول علقمة بن قيس : " كان عبد الله بن مسعود يقوم عشيّة كل خميس متحدثا، فما سمعته في عشية منها يقول : قال رسول الله غير مرة واحدة ،فنظرت اليه وهو معتمد على عصا فاذا عصاه ترتجف وتتزعزع ".. !!

ويحدثنا مسروق عن عبد الله : " حدّث ابن مسعود يوما حديثا فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ثم أرعد وأرعدت ثيابه .. ثم قال : أو نحو ذا .. أو شبه ذا " .. !!

الى هذا المدى العظيم بلغ اجلاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ توقيره اياه، وهذه أمارة فطنته قبل أن تكون امارة تقاه .. !!

فالرجل الذي عاصره رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرمن غيره، كان ادراكه لجلال هذا الرسول العظيم ادراكا سديدا .. ومن ثمّ كان أدبه مع الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، ومع ذكراه في مماته، أدبا فريدا.. !!

لم يكن يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، ولا في حضر .. ولقد شهد المشاهد كلها جميعها .. وكان له يوم بدر شأن مذكور مع أب جهل الذي حصدته سيوف المسلمين في ذلك اليوم الجليل .. وعرف خلفاء الرسول وأصحابه له قدره .. فولاه أمير المؤمنين عمر على بيت المال في الكوفة،وقال لأهلها حين أرسله اليهم : " اني والله الذي لا اله الا هو، قد آثرتكم به على نفسي، فخذوا منه وتعلموا " .

ولقد أحبه أهل الكوفة حبا جما لم يظفر بمثله أحد قبله، ولا أحد مثله ..

واجماع أهل الكوفة على حب انسان، أمر يشبه المعجزات ..

ذلك أنهم أهل تمرّد ثورة، لا يصبرون على طعام واحد .. !! ولا يطيقون الهدوء والسلام ..

ولقد بلغ من حبهم اياه أن أطاحوا به حين أراد الخليفة عثمان رضي الله عنه عزله عن الكوفة وقالوا له : " أقم معنا ولا تخرج، ونحن نمنعك أن يصل اليك شيء تكرهه منه " ..

ولكن ابن مسعود أجابهم بكلمات تصوّر عظمة نفسه وتقاه، اذ قال لهم : " ان له عليّ الطاعة، وانها ستكون أمور وفتن، ولا أحب أن يكون أول من يفتح أبوابها " .. !!

ان هذا الموقف الجليل الورع يصلنا بموقف ابن مسعود من الخلبيفةعثمان .. فلقد حدث بينهما حوار وخلاف تفاقما حتى حجب عن عبد الله راتبه ومعاشه من بيت الامل ،، ومع ذلك لم يقل في عثمان رضي الله عنه كلمة سوء واحدة ..

بل وقف موقف المدافع والمحذر حين رأى التذمّر في عهد عثمان يتحوّل الى ثورة ..

وحين ترامى الى مسمعه محاولات اغتيال عثمان، قال كلمته المأثورة : " لئن قتلوه، لا يستخلفون بعده مثله " .

ويقول بعض أصحاب ابن مسعود : " ما سمعت ابن مسعود يقول في عثمان سبّة قط " ..

ولقد آتاه الله الحكمة مثلما أعطاه التقوى .

وكان يملك القدرة على رؤية الأعماق، والتعبير عنها في أناقة وسداد ..

لنستمع له مثلا وهو يلخصحياة عمر العظيمة في تركيزباهر فيقول : " كان اسلامه فتحا.. وكانت هجرته نصرا .. وكانت امارته رحمة .. " .

ويتحدث عما نسميه اليوم نسبية الزمان فيقول : " ان ربكم ليس عنده ليل ولا نهار .. نور السموات والأرض من نور وجهه " .. !!

ويتحدث عن العمل وأهميته في رفع المستوى الأدبي لصاحبه، فيقول : " اني لأمقت الرجل، اذ أراه فارغا .. ليس في شيء من عمل الدنيا، ولا عمل الآخرة " ..

ومن كلماته الجامعة : " خير الغنى غنى النفس، وخير الزاد التقوى، وشر العمى عمى القلب، وأعظم الخطايا الكذب، وشرّ المكاسب الربا، وشرّ المأكل مال اليتيم، ومن يعف يعف الله عنه، ومن يغفر يغفر الله له " ..

هذا هو عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهذه ومضة من حياة عظيمة مستبسلة، عاشها صاحبها في سبيل الله، ورسوله ودينه ..

هذا هو الرجل الذي كان جسمه في حجم العصفور .. !!

نحيف، قصير، يكاد الجالس يوازيه طولا وهو قائم ..

له ساقان ناحلتان دقيقتان .. صعد بهما يوما أعلى شجرة يجتني منها أراكا لرسول اله صلى الله عليه وسلم .. فرأى أصحاب النبي دقتهما فضحكوا، فقال عليه الصلاة والسلام : " تضحكون من ساقيْ ابن مسعود، لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد " .. !!

أجل هذا هو الفقير الأجير، الناحل الوهنان .. الذي جعل منه ايمانه ويقينه اماما من أئمة الخير والهدى والنور ..

ولقد حظي من توفيق الله ومن نعمته ما جعله أحد العشرة الأوائل بين أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم .. أولئك الذين بشروا وهم على ظهر الأرض برضوان الله وجنّته ..

وخاض المعارك الظافرة مع الرسول عليه الصلاة والسلام، مع خلفائه من بعده ..

وشهد أعظم امبراطوريتين في عالمه وعصره تفتحان أبوابهما طائعة خاشعة لرايات الاسلام ومشيئته ..

ورأى المناصب تبحث عن شاغليها من المسلمين، والأموال الوفيرة تتدحرج بين أيديهم، فما شغله من ذلك شيء عن العهد الذي عاهد الله عليه ورسوله .. ولا صرفه صارف عن اخباته وتواضعه ومنهج حياته ..

ولم تكن له من أمانيّ الحياة سوى أمنية واحدة كان يأخذه الحنين اليها فيرددها، ويتغنى بها، ويتمنى لو أنه أدركها ..

ولنصغع اليه يحدثنا بكلماته عنها : " قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك .. فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر فأتبعتها أنظر اليها، فاذا رسول الله، وأبوبكر وعمر، واذا عبد الله ذو البجادين المزني قد مات واذا هم قد حفروا له، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته، وأبو بكر وعمر يدليانه اليه، والرسول يقول : ادنيا اليّ أخاكما .. فدلياه اليه، فلما هيأه للحده قال : اللهم اني أمسيت عنه راضيا فارض عنه .. فيا ليتني كنت صاحب هذه الحفرة " .. !!

تلك أمنيته الوحيد التي كان يرجوها في دنياه .

وهي لا تمت بسبب الى ما يتهافت الناس عليه من مجد وثراء، ومنصب وجاه ..

ذلك أنها أمنية رجل كبير القلب، عظيم النفس، وثيق اليقين.. رجل هداه الله، وربّاه الرسول، وقاده القرآن .. !!

فيس بوك

Ad_square_02
Ad_square_03
.Copyright © 2024 SuezBalady